انتهينا ولله الحمد من شرح أحاديثِ كتاب التعبير من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، وها نحن نبدأ على بركة الله تعالى في
شرح أحاديثِ كتابِ الرؤيا من صحيح الإمام مسلم رحمه الله:
والحديثُ الأولُ
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ : «رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ»
لقد رأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في منامه كأنه هو وأصحابَه قد حلوا ضيوفاً على عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ الأنصاري في دَارِه بالمدينةِ، وقد بخلت علينا كتبُ تأريخِ الصحابة بذكرِ مزيدٍ من سيرةِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، كما أنه ليس له في كتبِ السنة إلا حديثٌ واحدٌ أخرجه أبو يعلى بإسنادٍ حسن أن رسول الله ﷺ قال : “إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدُكم مريضه”. أي يحفظُه من الوقوع في شهوات الدنيا المحرمة!
فما الضيافةُ التي قُدمتْ للضيفِ الكريم؟
لقد قُدِّم إليهم أطيبُ أنواع الرطب والتمور، إنه رُطبُ ابن طاب، وهذا التمرُ سُمّي باسم رَجُلٍ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة يُعرفُ بابن طاب ، ويبدو أن رُطَبَ ابنِ طابٍ كان يُقدم في هذا الوقت المبكر للمتميزين من الضيوف والعزيزين منهم، كما يدلُّ عليه ما أخرجَه مسلمٌ عن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، أَيْنَ تَعْتَدُّ؟ قَالَتْ: «طَلَّقَنِي بَعْلِي ثَلَاثًا، فَأَذِنَ لِي النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَعْتَدَّ فِي أَهْلِي»
فالرؤيا التي رآها ﷺ في منامهِ كَأَنَّه هو وبعضَ أصحابهِ فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقُدمَتْ إليهم ضيافةٌ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فما تأويلُها؟ قال ﷺ معبراً لها: “فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ»،
ولقد ذكرنا قبل ذلك أن تعبيرَ رموزِ الرؤى والأحلام
يكون بدلالة القرآن الكريم، أو بدلالة الحديث الشريف، أو بدلالة المعنى والقياس والتشبيه، أو بدلالة الأسـامي والأمثال واشتقاق اللغة، أو بدلالة الضد والقلب و المعكوس، وقد اختار ﷺ من هذه الدلالات لتعبيرِ رؤياه دلالةَ الأسماء، وهي طريقة معتبرةٌ وسهلةٌ ولها ضوابطُ علمية لابد للمعبرِ مِن رعايتها، كما قال ابن الوردي في ألفيته في الرؤى والأحلام:
والاشْتِقَاقُ فِي الأسَامِي أَصْلُ \\\* عَنْ ابْن سِيرِين وَصَحَّ النَّقْلُ فَاعْمَل بِهِ إنْ غَابَتْ الأُصُولُ \\\* أو قَصُـرَت رُؤْيَاهُ والدَّلِيلُ كَقَولِنَا: (سَوسَنَةٌ): سُوء سنة \\\* وَفِي (النَّعَامِ) نِعْمَـةٌ مُبَيَّنـَة
فعبر ﷺ رؤياه برفعةِ الأمةِ في الدنيا، واستنبط ذلك من رافع، كما عبرها بحسنِ عاقبتِها في الآخرة، واستنبط ذلك من عُقبة، وكيفَ لا تكون العاقبةُ لنا في الآخرة، وقد قال ﷺ في الحديثِ المتفقِ على صحته:” نحنُ الآخرون السابقون يوم القيامة" وقال كما في الصحيحين أيضا: “أرجو أن تكونوا نصفَ أهل الجنة” كما عبر ﷺ رؤياه بأن الإسلامَ قد طاب يعني قد كملت أصولهُ واستقرت قواعدهُ، واستنبط ذلك من ابن طاب.