وصلنا إلى الباب العشرين من كتاب التعبير من صحيح الإمام البخاري، وقد أخرج فيه بسنده المتصل رؤيا رآها رسول الله ﷺ تبشر بزواجه من عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فقد رأى ﷺ جبريلَ عليه السلام جاء على هيئة رجلٍ يحملُ عائشةَ في ثوبٍ من حرير، قائلاً له: هذه زوجتك! وقد أراد البخاري من هذا الباب، أن يبين معنى المرأةِ في المنام وتفسيرَ الحريرِ في الأحلام.
وقد ذكر علماءُ التعبير أن رؤيةَ المرأةِ فى المنام
قد تدل على أن الرائي سيَتَزَوَّجُ حَقِيقَةً بِمَنْ رَآهَا أَوْ شَبَهِ التى رَآهَا فى المنام، كما أن المرأة قد ترى في منامها من سوف تتزوجه، وربما لم تره من قبل، وقد رات فتاة رجلا وسمته لي باسم معين، ولم تكن تعرف هذا الاسم من قبل، فتقدم صاحب الاسم لخطبتها، وقد تدل المرأةُ على الدنيا أو على منصب فيها، كما تدل على كثرةِ الأموالِ وسعة الأرزاق، وَقَدْ تَدُلُّ الْمَرْأَةُ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِي الرُّؤْيَا عَلَى فِتْنَةٍ أو مشكلة، أما ثياب الحرير فى الرؤيا فتدل على النكاح وعلى العز والغنى والجاه والسلطان وسعة المال ولُبس الذهب، وقال بعض المعبرين: لاخير فى ثياب الحرير للرجال.
كما أراد البخاري في هذا الباب أن يبين شيئا من فضائلِ أمِّ المؤمنين عائشة، فقال رحمه الله:
20 - بَابُ كَشْفِ المَرْأَةِ فِي المَنَامِ.
7011 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " أُرِيتُكِ فِي المَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " قولُه ﷺ:" أُرِيتُكِ فِي المَنَامِ مَرَّتَيْنِ، وفي رواية لمسلم (ثلاث مرات) وهذه الرؤيا كانت بعد الوحي وبعد موت خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كما جاء في روايات أخرى، وليست قبل النبوة كما ذهب بعض العلماء، فقَدْ جاء في روايةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ :" أُتِيتُ بِجَارِيَةٍ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ فَكَشَفْتُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ" وقوله ﷺ:" إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ" الرجلُ هو جبريل عليه السلام، وقد جاء في صورةِ رجلٍ كما بينته الروايات الأخرى) وقوله يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، (السَّرَقَةُ بِفَتْحِ السين وَالرَّاءِ وَالْقَافِ هِيَ الْقِطْعَةُ، والمعنى أن الملَك جبريلَ الذي تمثلَ على هيئةِ بشرٍ سوي كان يحملها في قطعةٍ من جيد الحرير، وَجاء فِي رِوَايَة ابن حِبَّانَ “فِي خِرْقَةٍ حَرِيرٍ” فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ، يعني أن جبريل قال لرسولنا ﷺ هذه زوجَتُك، وقوله ﷺ فَأَكْشِفُهَا يعني أن النبي ﷺ كشف عن وجهها قطعةَ الحرير لكي يرى من هذه المرأة ( كما في رواية أخرى: فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهكِ الثَّوْبَ) فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، يُرِيدُ أَنَّ التي رَآهَا فِي النَّوْمِ هي عائشةُ رضي الله عنها لَا غَيْرَهَا من النساء. وقوله ﷺ: فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " لفظ الشكّ (إِنْ يَكُنْ) لا يُراد بِهِ ظَاهِرُهُ فهو ﷺ لم يشك في أنها ستكون زوجةً له، فرؤيا الأنبياء وحي، ولكن أخبر بأسلوب التأكيد في صورة الشك، وهو نوعٌ من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهلَ العارف، وسماه بعضهم مزجَ الشكِ باليقين، على نحو قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِك} وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} فقوله إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " يقينٌ وليس بشك، وهي كلمة فيها تواضعٌ، وفيها تفويضُ الأمر لله تعالى، وقد أمضاه الله تعالى، وأصبحت عائشةُ الصديقةُ بنتُ الصِّديقِ من أزواجه ﷺ وصارت أفضلَ أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن جميعًا-
وما من شكٍ أن الحديثَ يدل على فضلها وعلو قدرها في الدين والملة بإجماع أهل السنة!
فهي الصِّدِّيقَةُ بنتُ الصديق الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فوق سبع سموات، حَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْفَقِيهَةُ الرَّبَّانِيَّةُ وَكُنْيَتُهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ كَنَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وُلِدَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ النُّبُوَّةِ وَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ بِنْتُ سَبْعٍ أَوْ سِتٍّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ « وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ» وذلك لحكمة بالغةٍ، فقد عمرتْ ثلاثًا وستين سَنَة وعاشت بعده ﷺ خمساً وأربعين سنة، لتنقل علوم الإسلام للأجيال المتعاقبة، وليحفظ الله بها الدين والسنةَ، فقد وهَبَها الله الذكاءَ والفِطنةَ وسُرعةَ الحفظ وقوةَ الذاكرة.
قال ابن كثير:
لم يَكُن في الأُممِ مثلُ عائشةَ في حِفْظها وعِلْمها، وفصاحتِها وعَقْلِها
ويقول الذهبيُّ:
هي أفْقَهُ نِساء الأمَّة على الإطلاق، ولا أعْلمُ في أمَّة محمَّد، بل ولا في النِّساء مطلقًا امرأةً أعلمَ منها
وقال الزُّهريُّ:
لو جُمِع عِلمُ عائشة إلى عِلمِ جميعِ النساء، لكان علمُ عائشةَ أفْضلَ،
وقدْ تجاوز عددُ الأحاديث التي روتْها ألْفَيْن ومئةَ حديث عن النبيِّ ﷺ وهي مُشتَهِرة في كُتُب السُّنَّة.
ولم يكن علمها قاصرا على الفقه والسنة، يقول عُروةُ بنُ الزُّبَيْر:“ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بفِقه، ولا بِطبٍّ ولا بِشِعر من عائشةَ - رضي الله عنها
وقال فيها أبو عُمرَ بنُ عبدالبرِّ:
“إنَّ عائشةَ كانتْ وحيدةً بعصرها في ثلاثةِ علوم: علمِ الفقه، وعلم الطب، وعلم الشِّعر”.
كما كانتِ أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها المرجعَ الكبيرَ لكِبار الصحابة، خاصَّة عندَ الفتن والمشكلات، حتى قال أَبو مُوسَى الأشعري:
«مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا»
وَقَالَ مَسْرُوقٌ:
رَأَيْت مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُونَهَا عَنْ الْفَرَائِضِ.
وقد بلغت في الزهد والعبادة الغاية وزادت، كانتْ كثيرةَ الصيام حتى ضعُفت، كما كانتْ زاهدةً، بعَث الخليفة ابنُ الزبير إليها بمئة ألْف، فدَعَتْ بطَبق، فجعَلتْ تقسم في الناس، فلمَّا أمسَت، قالت: هاتِي يا جاريةُ فُطوري، فقالت أمُّ ذَرَّة: يا أمَّ المؤمنين، أمَا استطعتِ أن تشتري لنا لحمًا بدِرْهم؟! قالت: لا تُعنِّفيني، لو أذْكْرِتيني لفعلتُ.
وقد كان النبيُّ يكثر الدعاء لها،
أخرجه البزَّار عن عائشةَ قالت: لمَّا رأيتُ مِن النبي ﷺ طِيبَ النَّفْس قلت: يا رسولَ الله، ادعُ اللهَ لي، فقال: ((اللهمَّ اغفرْ لعائشةَ ما تقدَّم مِن ذنبِها وما تأخَّر، وما أسَرَّتْ وما أعْلَنتْ))، فضحِكتْ عائشةُ حتى سقَط رأسها في حجْرِ رسولِ الله ﷺ من الضحِك، فقال: ((أيَسرُّكِ دُعائي؟))، فقالت: وما لي لا يَسرُّني دعاؤكَ؟! فقال: ((واللهِ إنَّها لدَعْوَتي))؛ حَسَّنه شيخنا الألباني.
وحسبك بامرأة يخصها جبريل بالسلام، قال ﷺ يَوْمًا لها كما في الصحيح: ((يا عائِشَ، هَذا جبْريلُ يُقْرِئُكِ السَّلاَم))، فَقُلْتُ: وَعليه السلام ورحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه، تَرَى ما لا أَرى!
وقدْ تعرَّضَتْ لفتنة كبيرة حيث طَعَن المنافقون في عِرْضها، فأنْزَل الله براءتَها من فوقِ سبعِ سموات، وقد قالتْ - رضي الله عنها - كما في الصحيحين: “واللهِ ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله منزلٌ في شأني وحيًا يُتْلَى، لشأني في نفْسي كان أحْقرَ مِن أن يتكلَّم الله فيَّ بأمْر، ولكن كنتُ أرْجو أن يرَى رسولُ الله ﷺ في النومِ رُؤيَا يُبرِّئني الله بها، فواللهِ ما رام رسولُ الله ﷺ مجلسَه، ولا خرَج أحدٌ مِنْ أهل البيت حتَّى أُنزِل عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه من البُرَحَاء، حتى إنَّه ليتحدَّر منْه مِن العَرَق مثل الجُمَان، وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القوْل الذي أُنزِل عليه. قالت: فَسُرِّي عن رسولِ الله ﷺ وهو يَضْحَك، فكانتْ أوَّل كَلمةٍ تَكلَّم بها أنْ قال: ((يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقدْ بَرَّأكِ))، قالت: فقالتْ لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقومُ إليه، فإنِّي لا أحْمَدُ إلاَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ.قالت: وأنزَل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11]
وفي ذلك يقول ابنُ كثير: “فغار اللهُ لها وأنْزَلَ براءتَها في عشْر آياتٍ تُتلى على الزمان، فسَمَا ذِكْرُها، وعلا شأنُها؛ لتسمعَ عفافَها وهي في صِباها، فشَهِدَ الله لها بأنَّها مِنَ الطَّيِّبات، ووعدَها بمغفرةٍ ورِزق كريم”
وقد تحدث العلماء عن خصائصها، رضي الله عنها -فمن خصائصها: أنَّها كانتْ أحبَّ أزواج رسولِ الله ﷺ إليه. ومِن خصائصها: أنَّه لَمْ يتزوَّج امرأةً بِكرًا غيرها. ومن خصائصها: أنَّه كان يَنزِل عليه الوحيُ وهو في لحافِها دونَ غيرِها. ومِن خصائصها: أنَّ رسولَ الله ﷺ تُوفِّي في بيتها، وفي يومِها، وبيْن سَحْرِها ونَحْرها، ودُفِن في بيتها. ذكر لها الزَّرْكشيُّ في كتابه “الإجابة لإيراد ما استدركتْه عائشةُ على الصحابة " أربعين خصيصة لها انفردت بها عن بقية أزواج النبي ﷺ
وقال في العاشرة منها بوجوب محبَّتِها على كلِّ أحد، لما ثبت في الصحيح: لمَّا جاءتْ فاطمة - رضي الله عنها - إلى النبيِّ ﷺ قال لها: ((ألسْتِ تُحبِّين ما أُحبُّ؟)) قالت: بلى، قال: ((فأَحبِّي هذه - يعني: عائشة))، والأمْرُ ظاهِرُه الوجوب. اللهم إنا نشهدك على حب أمنا عائشة أكثر من أمهاتنا. تُوفِّيت - رضي الله عنها وأرْضاها - سَنةَ سَبْعٍ وخمسين في ليلةِ الثلاثاء لسَبْعَ عشرةَ خَلَتْ مِن رمضان بعدَ الوتر، ودُفنت من ليلتها، وصلَّى عليها أبو هريرة، بعدَ أن عمرتْ ثلاثًا وستين سَنَة وأشهرًا – ودفنت بالبقيع.