سنشرح هذه المرة بإذن الله تعالى بابين اثنين وهما الخامسُ عشر والسادسُ عشر، وليس بابا واحدا كما تعودنا، والبابان يتعلقان برؤيا اللبن في المنام، يقول البخاري رحمه الله:

بَابُ اللَّبَنِ

7006 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي - يَعْنِي - عُمَرَ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «العِلْمَ»

بَابُ إِذَا جَرَى اللَّبَنُ فِي أَطْرَافِهِ أَوْ أَظَافِيرِهِ

7007 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِي، فَأَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ» فَقَالَ مَنْ حَوْلَهُ: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «العِلْمَ» لقد قص النبي ﷺ على أصحابه رضي الله عنهم رؤيا رآها في منامه، فقال ﷺ:«بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ " وبينا بالألف: أصله بَين، فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وَقد تدخل عَلَيْهَا: مَا، فَيُقَال: بَيْنَمَا، يَذكر ﷺ لأصحابه أنه رأى أثناء نومه شخصاً جاءه بقدح من لبن قال ﷺ “فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِي أو مِنْ أَظْفَارِي” والمعنى أني شربت وارتويت كثيراً من اللبن حتى صرتُ كأني أرى اللبن بعيني يخرج من أصابعي، ويسيل على أظفاري من شدة الرِّيِّ، فالرِّيُّ هنا المراد به اللبن " وقَوْلُه: “ثمَّ أَعْطَيْت فضلي عمر بن الخطاب " أَي: مَا فضلَ من اللَّبن الَّذِي هُوَ فِي الْقدحِ الَّذِي شربت مِنْهُ. فقال الصحابة: (فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ أَي: فَمَا عبرتَه؟ والتأويل فِي اللُّغَة: تَفْسِير مَا يؤول إِلَيْهِ الشَّيْء، وَالمُرَاد بِهِ هَهُنَا تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا.  فقال ﷺ: العلم "  أي فسرت اللبن في رؤياي بالعلم، وَجاء فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ سَالِمٍ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لَهُمْ أَوِّلُوهَا قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا عِلْمٌ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ فَمَلَأَكَ مِنْهُ فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَأَعْطَيْتَهَا عُمَرَ قَالَ أَصَبْتُمْ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ هَذَا وَقَعَ أَوَّلًا ثُمَّ احْتَمَلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ ﷺ فِي تَأْوِيلِهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا فمَا أَوَّلْتَهُ أنت يا رسول الله!

ويستفاد من الحديث،

فضلُ العلمِ وشرفُه، وأهميتُه بالنسبة للإِنسان، لأنه أفضلُ غذاءٍ لروحه، كما أن اللبنَ أفضلُ غذاءٍ لبدنه، ولأنه ميراثُ النبي ﷺ الذي تبقى لنا من بعده، ولذلك فُسِّر به اللبن الذي تبقى منه وشربه عمر رضي الله عنه.

فتَفْسِير اللَّبن بِالْعلمِ لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِي كَثْرَة النَّفْع بهما، وَفِي أَنَّهُمَا سَببا الصّلاح، فاللبن غذَاء الْإِنْسَان وَسببُ صَلَاحِ بدنهِ وَقُوَّته، وَالْعلم سَبَب الصّلاح فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وغذاء الْأَرْوَاح.

قَالَ الْمُهلب:

رُؤْيَة اللَّبن فِي النّوم تدل على السّنة والفطرة وَالْعلم وَالْقُرْآن، لِأَنَّهُ أولُ شَيْء يَنَالهُ الْمَوْلُود من طَعَام الدُّنْيَا، وَبِه تقوم حَيَاتُه كَمَا تقوم بِالْعلمِ حَيَاةُ الْقُلُوب، فَهُوَ يُنَاسب الْعلم من هَذِه الْجِهَة.

وقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ:

“اللَّبَنُ رِزْقٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ طَيِّبًا بَيْنَ أَخْبَاثٍ مِنْ دَمٍ وَفَرْثٍ كَالْعِلْمِ نُورٌ يُظْهِرُهُ اللَّهُ فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمَنَامِ.

إن أكثر من انحرف من الشباب كان بسبب جهله بالشرع! ولذلك فإن جهادَ الشاب في طلب العلم الشرعي أحب إلى الله وأفضلُ من قتاله في سبيله! وقد سئل الإمام أحمد عن رجل له خمس مئة درهم، ترى أن يصرفها في الغزو والجهاد، أو يطلب العلم؟ فأجاب:

" إذا كان جاهلاً يطلب العلم أحب إلي "

وفي ذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه : لأن أعلم بابا من العلم في أمر ونهي أحب إلي من سبعين غزوة في سبيل الله! وقال الحسن البصري : ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب علم! لا حج ولا عمرة ولا جهاد ولاصدقة”

قال ابن بطال رحمه الله : " إن طلب العلم ينبغي أن يكون أفضل من الجهاد وغيره، لأن الجهاد لا يكون إلا بعلم حدوده وما أحل الله منه وحرم، ألا ترى أن المجاهد متصرف بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كله في ميزان العالم " بل قال الإمام الفقيه أبو العباس القرافي ( ت: 684 هـ) :

“ما الجهاد وجميع الأعمال في طلب العلم إلا كنقطة في بحر "

وَفِي الحديث أَنَّ عِلْمِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّهِ لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ دَرَجَتَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ شَرِبَ حَتَّى رَأَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ فَضْلَهُ عُمَرَ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا حَصَلَ لِعُمَرَ مِنَ تفوقٍ في علوم الشريعة، لأنّه نَهِلَ من ذلك اللبن الذي شرب منه النبي ﷺ فدل ذلك على اختصاصه وامتيازه بقدرٍ زائدٍ من العلم.

هذا وللبن تعبيرات كثيرة في المنام،

  • قال علماء التعبير اللَّبن كلما كَانَ حلوا كَانَ أَجودَ إذ يدل على زِيَادَة المَال وَالدّين وَإِن كَانَ حامضا يدل على نُقْصَان المَال وَالدّين بِقدر مَا شرب مِنْهُ.
  • وَالمْرَأَة إذا خرج حليبٌ من ثديها، وَجرى فَإِنَّهُ يدل على الْخَيْر وَزِيَادَة النِّعْمَة.
  • وَمن رأى أَنه يشرب لبن الْفرس جاءه خير من الحكام.
  • وَلبن النَّاقةِ يدل على حُصُول المَال وَالنعْمَة من رجل جليل الْقدر بِقدر مَا شرب مِنْهُ.
  • وَلبن الغزالِ يدل على سَعَة الرزق.
  • وَلبن الْمعز يدل على حُصُول مَال من زَوجته.
  • وَلبن النمر يدل على الظفر بالعدو وَرُبمَا يظْهر لَهُ عَدو.
  • وَلبن الْفِيلِ يدل على مَال حرَام من رجل كَبِير.
  • وَلبن الجاموس يدل على سَعَة الرزق وَالْمَال.
  • وَلبن الْحمار يدل على الْمَرَض وَحُصُول الشِّفَاء بعده.
  • وَلبن الْخِنْزِير رُبمَا دلّ على أكل مَال حرَام، وَرُبمَا دلّ على حُصُول الْغم والمصيبة.
  • وَلبن الثَّعْلَب يدل على الْمَكْر وَالْحِيلَة
  • وَلبن الْكَلْب يدل على حُصُول الْخَوْف، وَرُبمَا دلّ على الْمَرَض.
  • وَلبن الْبَقر يدل على حُصُول الْخَيْر والرفعة.
  • وَلبن الْهِرَّة يدل على الْخُصُومَة وَالْحَرب، وَرُبمَا دلّ على الضعْف والمرض.
  • وَلبن الطُّيُور يدل على حُصُول المُرَاد وتحقيق الأمنيات.
  • ورؤيةُ اللبن في الثديين للرجال والنساء مال، ومن يرضع منهما يستفيد مالا من المرضع.
  • وألبان الأنعام أموال حلال من الحكام، ومن حلب ناقةً وشربَ لبنها دل على أنّه يتزوج أمرأة صالحة.
  • وَاللبن إِن شربه الْمَرِيض شفي من الْمَرَض، وَمن بدد اللَّبن فقد قصر في دينه، وَمن رأى اللَّبن يخرج من الأَرْض فَإِنَّهُ يدل على فتْنَة يُراق فِيهَا دم.
  • ووعاءُ اللبنِ في المنام يدل على رجلٍ عالم أو صاحبِ مالٍ كثير

والله أعلم