رؤيا الموتى ولقاء الأرواح
إن أكثر مَن تكلم في هذه المسألة التي اختلف حولها السادةُ العلماءُ هو الإمام ابن القيم في كتابه “الروح”، حيث أكد على أنَّ الرؤيا على ثلاثة أنواع:
- رؤيا مِن الله.
- رؤيا من الشيطان.
- رؤيا من حديث النفس.
وذكر أن الرؤيا الصحيحة أقسام، وأن منها الْتقاءَ رُوح النائم بأرواح الموتى مِن أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم.
حديث الصحابة
وصحح ما ورد عن الصَّعبِ بن جَثَّامة وعوف بن مالك، وهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانا متآخيَيْن. فقال صعبٌ لعوف:
“أيْ أخي، أيُّنا مات قبل صاحبه فليترآى له” (يعني يأتيه في الرؤيا في المنام).
قال عوف: “أو يكون ذلك؟” قال صعب: “نعم.”
فمات صعب، فرآه عوفٌ فيما يرى النائم كأنَّه قد أتاه، فقال عوف: “أي أخي؟” قال صعب: “نعم.”
قال عوف: “ما فُعِل بكم؟” قال: “غُفِر لنا بعد المصائب.” قال: “ورأيت لمعةً سوداء في عنقه.”
قلت: “أي أخي، ما هذا؟” قال: “عشرة دنانير استلفتُها مِن فلان اليهودي، فهنَّ في قَرَني.”
(والقَرَن جُعبة من جلد). فأعطوه إيَّاها، واعلمْ أي أخي، أنَّه لم يحدُث في أهلي حَدَثٌ بعد موتي إلاَّ قد لَحِق بي خبرُه، حتى هِرَّة يعني قطةً لنا ماتتْ منذ أيام، واعلم أنَّ بنتي تموتُ إلى ستَّة أيَّام، فاستوصوا بها معروفًا.
قال عوف بن مالك: فلمَّا أصبحتُ قلت: “إنَّ في هذا لعِلمًا.” فأتيتُ أهلَه، فقالوا: “مرحبًا بعوف، أهكذا تصنعون بتَرِكة إخوانكم؟! لَم تَقربْنا منذ مات صعب!!”
قال عوف بن مالك: فاعتللت بما يعتلُّ به الناس، فنظرت إلى القرَن فأنزلتُه، فانتشلت ما فيه، فوجدتُ الصُّرَّة التي فيها الدنانير، فبعثت بها إلى اليهودي، فقلت: “هل كان لك على صَعبٍ شيء؟”
قال: “نعم، أسلفتُه عشرةَ دنانير.”
قال عوف: “فنبذتُها إليه.” قال اليهودي: “هي والله بأعيانها.”
قال عوف: “قلت: هذه واحدة.” ثم قال لأهل صعب: “هل حَدَث فيكم حدثٌ بعد موت صعب؟”
قالوا: “نعم، حَدَث فينا كذا، حدث فينا كذا، إلى أن قالوا: وهرَّة ماتت منذ أيام.”
قال عوف: “هاتان اثنتان.” ثم قال عوفُ: “أين ابنةُ أخي؟” قالوا: “تلعب.” فأتيتُ بها فمسستُها، فإذا هي محمومة، فقلت: “استوصوا بها معروفًا فماتتْ في سِتَّة أيام.”
الأدلة القرآنية
فهذا الخبر الصحيح نصٌ في اعتقاد الصحابة -رضي الله عنهم- إمكانَ الِّلقاء بين الأحياء والأموات بواسطةِ المنام، وأنه نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة كما قرَّره ابن القيم -رحمه الله- في “الروح”.
وقد قرر ابن حزم -رحمه الله- هذا في “رسالة الأخلاق والسير” فقال:
“طال تعجبي في الموت، وذلك أنّي صحبت أقواماً صحبةَ الروح للجسد من صدق المودة، فلمَّا ماتوا رأيتُ بعضَهم في النوم ولم أر بعضَهم، وقد كنت عاهدت بعضهم على التزاور في المنام بعد الموت -إن أمكن ذلك- فلم أره في النوم بعد أن تقدّمني إلى دار الآخرة، فلا أدري أنسي أم شُغِل.”
ويستدل العلماء على التقاء أرواح الأحياء والموتى في المنام بقوله تعالى:
“اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر: 42).
قال كثرةٌ من المفسرين: “إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعُها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.”
وفي هذه الآية إعجاز
أقول: وفي هذه الآية إعجاز علمي كبير إذ تساوي بين الموت والنوم، وأن هنالك فرقا بين الموت والحياة، وأن هنالك روحا في الإنسان.
ولذلك إذا خرجت اثناء النوم فقد الإنسانُ شيئًا من طاقته الحيوية، ولما سمعها أحدُ أبرزِ علماء الهندسة الكهربائية وهو أستاذ في جامعة لندن، وقد طلبت منه إحدى الجمعيات العلمية أن يثبت أن في جسد الإنسان روحًا، وأثبت ذلك، أشهر إسلامه عندما سمع هذه الآية، وغير اسمه إلى عبد الله ألسون.
وفي علاقة الروح بالبدن، يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية:
“فالروحُ لها بالبدن خمسةُ أنواعِ من التعلق متغايرةِ الأحكام:
- تَعلُّقُها به في بطن الأم جنينًا.
- تَعلُّقُها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
- تَعلُّقُها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
- تَعلُّقُها به في البرزخ فإنها وإن فارقت التجرد عنه فإنها لم تفارقه فِراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة.
- تَعلُّقُها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقِها بالبدن.
الخاتمة
ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلقٌ لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا فالنوم أخو الموت.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/303) عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ أَمْ لَا؟ وَأَرْوَاحُ الْمَوْتَى هَلْ تَجْتَمِعُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَمْ لَا؟ وَرُوحُ الْمَيِّتِ هَلْ تَنْزِلُ فِي الْقَبْرِ أَمْ لَا؟ وَيَعْرِفُ الْمَيِّتُ مَنْ يَزُورُهُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: “الحمد لله، لا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفِنُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَا يُؤْذِي الْمَيِّتَ فَيُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا نُقَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.