منذُ أكثرَ من 2600 سنة ، رُؤيت أشهرُ رؤيا في تاريخ البشرية، رآها ملكٌ من أشهر الملوك وأكثرِهم قوةً وبطشاً، وهي رؤيا عظيمةٌ تتنبأُ بتاريخِ تتابع الأمم في سيطرتها على العالم، كما تتنبأ بتساقطِ هذه الأمم أمام أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها رؤيا الملك نَبُوخَذْنَصَّرَ الذي حكم مدينة بابل في العراق للفترة من 630 إلى 562 قبل. الميلاد.،
وكانت بابلُ آنذاك القوةَ الأولى في المنطقة بلا منازع.
قاد الملك نَبُوخَذْنَصَّرَ الجيوش البابلية وغزا القدس ودمرها وأخذ اليهود أسرى إلى بابل وأنهى حكمهم بها سنة 586 قبل. الميلاد
كما قاد جيوشَه في معاركَ حاسمةٍ وهزم فارسَ ومصرَ سنة 609 ق م وسنة 605 ق م
كما اشتهر نَبُوخَذْنَصَّرَ بنشاطاته العُمرانية في بابل والعراق، وقد بنى لزوجته الحدائقَ المعلقةَ في بابل ، وهو العملُ الذي خلّد ذكرَه، فكان أحدَ عجائبِ الدنيا السبعة وعاصر الملكُ نَبُوخَذْنَصَّرَ عددا من أنبياء بني إسرائيل منهم دانيال الذي عبر رؤياه المشهورة، ودانيالُ عليه السلام، له سفر باسمه في الكتاب المقدس، يتميزُ بتطابق ما فيه من النبوءات مع الواقع؛ كما تميز باشتماله على بشاراتٍ صريحةٍ، بختم النبوة بمحمد وظهورِ الرسالة الإسلامية.
رأى الملك نَبُوخَذْنَصَّرَ " رؤيا أزعجته،
فاستدعى السحرةَ والعرافين، ولم يطلب منهم أن يعبروا رؤياه فقط، بل طلب أن يخبروه بالرؤيا التي رأى في منامه ثم أن يخبروه بتأويلِها فعجزوا كلهم! فهددهم بالقتل قِطعا قطعا وبتخريبِ بيوتهم، فماذا حدثَ؟ ومن يستطيع أن يخبرك برؤياك التي رأيت في منامك؟
وإليكم القصةَ كلَها من سفر دانيال الإصحاح الثاني،
بتصرف يسير جدا من أجل الشرح والتوضيح وقد ذكر القصةَ كثرةٌ كاثرة من العلماء المسلمين في كتبهم، تقول القصة: وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُلْكِ نَبُوخَذْنَصَّرَ، حَلَمَ نَبُوخَذْنَصَّرُ أَحْلاَمًا، فَانْزَعَجَتْ رُوحُهُ وَطَارَ عَنْهُ نَوْمُهُ.
فَأَمَرَ بِأَنْ يُسْتَدْعَى الْمَجُوسُ وَالسَّحَرَةُ وَالْعَرَّافُونَ وَالْكَلْدَانِيُّونَ (وهم مجموعة عِرقية كانوا يسكنون بابل والملكُ نَبُوخَذْنَصَّرَ منهم) إذن أَمَرَ بِأَنْ يُسْتَدْعَى الْمَجُوسُ وَالسَّحَرَةُ وَالْعَرَّافُونَ وَالْكَلْدَانِيُّونَ، فَأَتَوْا وَوَقَفُوا أَمَامَه.
فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: «قَدْ حَلَمْتُ حُلْمًا وَانْزَعَجَتْ رُوحِي لِمَعْرِفَةِ الْحُلْمِ».
فَكَلَّمَ الْكَلْدَانِيُّونَ الْمَلِكَ بِالأَرَامِيَّةِ: «عِشْ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى الأَبَدِ. أَخْبِرْ عَبِيدَكَ بِالْحُلْمِ فَنُبَيِّنَ تَعْبِيرَهُ».
فَأَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ لِلْكَلْدَانِيِّينَ: «قَدْ خَرَجَ مِنِّي الْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِالْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ، تُصَيَّرُونَ إِرْبًا إِرْبًا وَتُجْعَلُ بُيُوتُكُمْ مَزْبَلَةً.
وَإِنْ بَيَّنْتُمُ الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ، تَنَالُونَ مِنْ قِبَلِي هَدَايَا وَحَلاَوِينَ وَإِكْرَامًا عَظِيمًا. فَبَيِّنُوا لِي الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ». …
أَجَابَ الْكَلْدَانِيُّونَ قُدَّامَ الْمَلِكِ وَقَالُوا: «لَيْسَ عَلَى الأَرْضِ إِنْسَانٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَ الْمَلِكِ. لِذلِكَ لَيْسَ مَلِكٌ عَظِيمٌ ذُو سُلْطَانٍ سَأَلَ أَمْرًا مِثْلَ هذَا ..لأَجْلِ ذلِكَ غَضِبَ الْمَلِكُ وَاغْتَاظَ جِدًّا وَأَمَرَ بِإِبَادَةِ كُلِّ حُكَمَاءِ بَابِلَ.
فَخَرَجَ الأَمْرُ، وَكَانَ الْحُكَمَاءُ يُقْتَلُونَ. ولما جاء دَورُ دَانِيآلَ وَأَصْحَابِهُ لِيَقْتُلُوهُمْ.
حِينَئِذٍ أَجَابَ دَانِيآلُ بِحِكْمَةٍ وَعَقْل .. وَطَلَبَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يُعْطِيَهُ وَقْتًا فَيُبَيِّنُ لِلْمَلِكِ التَّعْبِيرَ.
حِينَئِذٍ مَضَى دَانِيآلُ إِلَى بَيْتِهِ، ودعا الله هو وأصحابُه، فكُشِفَ له السِّرُّ فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ، فحمد دانيال الرب سبحانه وأكثر من ذكره والثناء عليه،وذهب للملك فقال لِدَانِيآلَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ عَلَى أَنْ تُعَرِّفَنِي بِالْحُلْمِ الَّذِي رَأَيْتُ، وَبِتَعْبِيرِهِ؟»
أَجَابَ دَانِيآلُ قُدَّامَ الْمَلِكِ وَقَالَ: «السِّرُّ الَّذِي طَلَبَهُ الْمَلِكُ لاَ تَقْدِرُ الْحُكَمَاءُ وَلاَ السَّحَرَةُ وَلاَ الْمَجُوسُ وَلاَ الْمُنَجِّمُونَ عَلَى أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلْمَلِكِ.
لكِنْ يُوجَدُ إِلهٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَاشِفُ الأَسْرَارِ ثم بدأ يقص عليه حلمه: أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنْتَ تَنْظُرُ وَإِذَا بِتِمْثَال عَظِيمٍ. هذَا التِّمْثَالُ الْعَظِيمُ الْبَهِيُّ جِدًّا وَقَفَ قُبَالَتَكَ، وَمَنْظَرُهُ هَائِلٌ.
(((رَأْسُ هذَا التِّمْثَالِ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ. صَدْرُهُ وَذِرَاعَاهُ مِنْ فِضَّةٍ. بَطْنُهُ وَفَخْذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ.
سَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ. قَدَمَاهُ بَعْضُهُمَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ.
كُنْتَ تَنْظُرُ إِلَى أَنْ قُطِعَ حَجَرٌ بِغَيْرِ يَدَيْنِ، فَضَرَبَ التِّمْثَالَ عَلَى قَدَمَيْهِ اللَّتَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَخَزَفٍ فَسَحَقَهُمَا.
فَانْسَحَقَ حِينَئِذٍ الْحَدِيدُ وَالْخَزَفُ وَالنُّحَاسُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَعًا، وَصَارَتْ كَعُصَافَةِ الْبَيْدَرِ يعني حبات التبن الدقيقة جدا فِي الصَّيْفِ، فَحَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَكَانٌ.(يعني أن الحجر نسف التمثال نسفا وجعله كحبات الدقيق أو التبن) أَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَ التِّمْثَالَ فَصَارَ جَبَلاً كَبِيرًا وَمَلأَ الأَرْضَ كُلَّهَا.
إذن رأى تمثالا من أربعة معادن الذهب ثم الفضة ثم النحاس ثم الحديد ثم جاء حجر ونسف التمثال وحوله لحبات مثل التبن أو الدقيق، قال دانيال: هذَا هُوَ الْحُلْمُ. فَنُخْبِرُ بِتَعْبِيرِهِ قُدَّامَ الْمَلِكِ. ثم فسر دانيال الحلمَ فقال:
«فَأَنْتَ هذَا الرَّأْسُ مِنْ ذَهَبٍ. (يعني أن مملكة بابل هي رأس التمثال)
قال وَبَعْدَكَ تَقُومُ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى أَصْغَرُ مِنْكَ،وقد فُسرت على أنها مملكة فارس قال: وَمَمْلَكَةٌ ثَالِثَةٌ أُخْرَى مِنْ نُحَاسٍ فَتَتَسَلَّطُ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ.وقد فُسرت على أنها مملكة اليونان،
وَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ صَلْبَةٌ كَالْحَدِيدِ، وفسرت بأنها مملكة الرومان. قال دانيال: وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَأوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا،
أقول:وواضح أنها الأمة الإسلامية،
قال دانيال: وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ.
لأَنَّكَ رَأَيْتَ أَنَّهُ قَدْ قُطِعَ حَجَرٌ مِنْ جَبَل لاَ بِيَدَيْنِ، فَسَحَقَ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ. اَللهُ الْعَظِيمُ قَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ هذَا. اَلْحُلْمُ حَقٌّ وَتَعْبِيرُهُ يَقِينٌ». حينئذ خرَّ نَبُوخَذْنَصَّرَ على وجهه وسجد “لـدانيال” وأمر بأن يقدموا لـه تقدمة وروائح سرور. وقال لدانيال: حقاً إن إلهكم إلهُ الآلهة وربُ الملوك وكاشفُ الأسرار إذ استطعت على كشف هذا السر'.
هذا نص الرؤيا التي توصف دائماً بأنها أشهرُ الرؤى التاريخية وأصدقها،
وأهل الكتاب قد أقروا بهذه الرؤيا وتأويلِها قروناً طويلة، دون أن يَدخلهم شك في أنها على ظاهرها، وأن المملكةَ الأولى (الرأسَ الذهبي) هي مملكة بابل ، وأن المملكةَ الثانية (الصدرَ الفضي) هي مملكة فارس ، التي قامت بعد بابل وسيطرت على العراق وبلاد الشام ومصر ، وأن المملكةَ الثالثة (الفخذ من النحاس) هي مملكة ُاليونان الذين اجتاحوا مملكة الفرس بقيادة الإسكندر المقدوني سنة (333 ق.م) وأن المملكة الرابعة (الرِجلين من حديد ثم حديد وخزف) هي الامبراطورية الرومانية التي انقسمت إلى شرقيةٍ عاصمتها بيزنطة = القسطنطينية ، وغربيةٍ عاصمتها روما . لم يكن أحد من أهل الكتاب يشك في هذا إطلاقاً، بل كانوا جميعاً - لشدة إيمانهم به - ينتظرون المملكة الخامسة التي يسمونها(مملكةَ الله)، التي تدمر ممالكَ الشركِ والكفرِ والظلمِ وكانوا يعلمون يقيناً أنها ستقوم على يد نبي آخر الزمان، الذي على كتفه ختم النبوة، والذي بشَّر به الأنبياء كلهم،
قامت المملكةُ الأخيرة أمةُ محمد فسحقت ممالك الوثنية والشرك والظلم والطغيان، وسيطرت على معظم المعمورة بالعدل والسلام، ودخل تحت لوائها من كل شعوب الأرض طوائفُ عظيمة، وهنا فقط! تفرق أهل الكتاب واختلفوا!!و تعسفوا تأويل رؤيا نَبُوخَذْنَصَّرَ وتعبير دانيال لها، حتى سمعت بعضهم يفسر المملكةَ الخامسةَ مملكةَ الله بالإتحاد الأوربي، فكيف يرمز الحجر الذي صار جبلا كبيرا بأوربا أتذكر عندما أركب الطائرة المتجهة لأوربا كأنها تطير فوق مجموعات من الحدائق الخضراء، فليس هناك شك أن الأمة الأخيرة التي يرمز لها الحجر الذي قضى على التمثال الوثني ثم صار جبلا هي أمةُ الإسلام التي إنبثق نورها من صحراء العرب!