كنا نتحدث عما ينتشر بكثرةٍ هذه الأيام في مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي
من الرؤى المبشرة بقرب ظهور المهدي، وانتهى بنا القولُ إلى أن أمر المهدي من الأمور الغيبية التي لا يجوز لأي مسلم أن يجزم فيها بأن فلانا هو المهدي مهما رأى من الرؤى والمنامات، إذ إن اعتمادَ المناماتِ في تعيين شخصية المهدي وتحديدِ زمانه، مخالفٌ للأدلة الشرعية، ومضاد لما قرره السادةُ العلماءُ من أن الأحلام مهما كثرت لا يجوز الاعتمادُ عليها في خلاف ما ثبت به الشرعُ المطهر، كما أنه سيفتح الباب أمام إدعاء المهدوية، إذ إن إدعاءَ المنامات لا يعجز عنه أحد أي أحد! وقد ذكرنا ما يؤكدُ أن زمانَ المهدي لم يحن بعدُ.
إن من يستعرض التاريخ يجد كثرةً من الناس ادعوا المهدية،
ليصلوا لأهداف سياسية وأغراض شخصية، وقد وصل بعضهم، كالمهدي بن تومرت الذي أسقط دولة المرابطين السنية، وأقام دولته دولةَ الموحدين، واتخذَ فكرةَ المهدي وسيلتَه للوصول لذلك، وقَتلَ في سبيل ذلك عشراتِ الألوفِ من المسلمين، حتى إنه كان يتفقُ مع بعض أصحابه على أن يجعلهم في المقابر، ويتركَ لهم مكاناً للتنفس، ويأمرهم بأن يكلموه من داخل المقابر إذا دعاهم للكلام من فوق المقابر، وحينما يسمعُ أتباعُه أن الموتى يكلمونه، ويشهدون له بأنه المهدي يرسخ إيمانهم به وولاؤهم له، ثم يهدمُ بعد ذلك القبورَ على من تواطأ معه فيها حتى يموتوا لكي لا يفشوا سره بعد ذلك.
وقد وُلد المهدي المزيف محمد بنُ عبدالله بنِ تومرت الصنهاجي،
في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري بالمغرب ، وحفظ القرآن الكريم، ودرس بعض العلوم الإسلامية في صباه، ثم ارتحل سنة خمسمئة وواحد 501هـ حيث زار قرطبة، ودرسَ علومَ ابن حزم الظاهري، ثم ارتحل ابنُ تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وفي طريق عودته مرّ بمكة، ولكي يضمنَ لدعوته النجاحَ والانتشارَ انتحلَ صفةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك للفت أنظار الناس إليه في البلاد التي مر بها حتى يعدونه من المصلحين، كما هدف إلى تكوين بعض الخلايا السرية، ولما وصل إلى بلاد المغرب نزل بمدينة المهدية سنة 505هـ، وفيها واصلَ نشاطَه في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودعوةِ الناس إلى الدخول في دعوته، حتى أنكرَ على علماءِ المغرب عدمَ استجابتهم لدعوته.
وكان يخاطب بدعوته الجهالَ والسُّذجَ من الناس
الذين لا يدركون حقيقة دعوته وما فيها من انحراف عن السنة، وكان ابن تومرت يبالغُ في إنكار المنكر على الحكام، وذلك لكي يكسب بهذه الجرأةِ مكانةً عند الناس، وذلك مخالفُ للسنة، كما أنه يُشعل الفتنة، فنصيحة الحكام تكون في السر وليس في العلانية، كما في الحديث الذي أخرجه ابن أبي عاصم وصححه الشيخُ الألباني رحمه الله" مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ" وكانت بلاد المغرب والأندلس في تلك الفترة تخضعُ لحكم دولة المرابطين، وكانت دولةً قوية، وعلى منهج أهل السنة، حيث كان يتولى أمرَها آنذاك السلطانُ عليُ بن يوسفَ بن تاشفين (500 – 537هـ) وكان ورعاً تقيا مقبولاً عند شعبه.
وقد كفّرَ ابنُ تومرت دولة المرابطين، متخذاً الأمر بالمعروف ستاراً لإظهار مفاسد دولة المرابطين فبدأ بالطعن في عقيدة المرابطين ووصفهم بالتجسيم والكفر والنفاق كما قال لأتباعه بأن غزوهم ومقاومتهم أوجب من حربِ أعداءِ الإسلام. وبهذا أصبحَ خطرُهُ يهدد كيانَ دولة المرابطين السنية، حينئذ استدعاه السلطانُ علي بنُ يوسفَ بنِ تاشفين وسأله: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فأجابه ابن تومرت في قوة بأنه يطلب الآخرة، ويأمرُ بالمعروف وينهي عن المنكر، وأن هذه مسؤولية الحاكم قبل غيره، ثم أمر السلطانُ الفقهاءَ بمناظرته واختباره، فلما ناظروه تبين لهم حقيقةُ ما يحمله ابن تومرت من آراء ومعتقداتٍ تخالفُ طريقةَ أهل السنة والجماعة، فأوصوا السلطان بسجنه سداً للذريعة. ودرءاً للفتنة لكن أحد المرابطين شفع فيه فأمر السلطان بإخراجه من مراكش ولم يسجنه.
وكان ابنُ تومرت لا يتورع عن الكذب حتى أثناء قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث كان إذا خشي بطشاً وهو يأمر بالمعروف خلط في كلامه بحيث يحسب من يراه أنه مجنون، وما به جنون ولكنه الخبث والمكر.
وقد جدّ ابنُ تومرت في تكوين قاعدة قوية مؤمنة بالمباديء البدعية الهدامة التي يدعو إليها، حيث أعد أفرادها إعداداً خاصاً، وذلك لكي يكونوا قاعدة شعبية لدعوته ثم لدولته، فبدأ في تنظيمهم وإعدادهم، وجعلهم في طبقات على رأسها الجماعةُ التي تمثل أعلى سلطة في حكومته، وهي تتألف من عشرة رجال، كان من بينهم عبد المؤمن بن علي خليفته من بعده،كما أنشأ حلقاتٍ للتدريس كان يبث أفكاره من خلالها، ولكي يؤصل تلك الأفكارَ في أذهانِ أتباعهِ ألَّفَ لهم كتاباً في العقيدة يتضمن الخطوط العريضة لأصول دعوته حيث طالبهم بحفظه.
وإلى جانب اهتمامه بتكوين القاعدة الشعبية، فإنه كان يحتمي بشوكة بعض القبائل البربرية حتى يضمن لنفسه الأمان، ولدعوته الانتشار. ولما اطمأن ابن تومرت إلى قاعدته وحُسن ولائها له، دعا الناس إلى مبايعته، فبايعوه بالحكم والإمامة ثم قام بتجهيز الحملات العسكرية، وشارك في تسع منها حتى أسقط دولة المرابطين السنية، وأقام دولته البدعية بعد أن أهدر دماء آلآف المسلمين. أما الأسس الفكرية لدعوة ابن تومرت:
1 – فقد ادعى ابن تومرت أنه من سلالة الرسول – صلى الله عليه وسلم –لكن طائفة من المؤرخين أنكرت هذا الادعاء، فما هذا الإدعاء إلا ثوباً مستعاراً قصد من ورائه أن يدعم بها صفة المهدي التي انتحلها أيضاً شعاراً لإمامته ورياسته
2 – كما أنه ادعى العصمة، والعصمةُ عند أهل السنة والجماعة لم تثبت إلا للأنبياء والرسل فيما يبلغون عن الله من شرعه، بل إنه لم يكتف بإدعاء العصمة حيث كان يأمر بقتلِ كل من يشكُ في عصمته، و كان يُكفرُ كلَّ من لم يؤمن بما يقول، ثم يستحل دمه!
3 – وقد تأثر ابن تومرت بكثير من آراء الخوارج لا سيما في تكفير الحكام، كما قال بكفر دولة المرابطين ووجوب جهادها، كما تأثر ابن تومرت بالخوارج في التساهل بسفك الدماء، وما زال التاريخُ يذكر أنه لما حلَّ ابنُ تومَرت بتينملل، أواه أهلها وأكرموه، وأعلنوا طاعتهم له، فلما رآهم أقوياء، أمرهم ابن تومرت بأن يحضروا إلى المساجد بغير سلاح فلما فعلوا ذلك عدة مرات أمر بقتلهم حتى بلغ عدد الذين قُتلوا خمسة عشر ألف رجل.
هذه الصفحة المظلمة من التاريخ كان لابد من فتحها لنعتبر بها ثم لنحذر من كل من يدعي أنه المهدي، ومن كل من يؤيده بافتراء الرؤى والأحلام، فمثل هؤلاء سنشير إليهم دائما بأصابع الإتهام للنيل من الإسلام.