الرؤيا ربما تكون خاصةً بالرائي وحده، فتعبر له وحده، وقد يكتشفُ المعبر بخبرته أن الرؤيا عامة لا تخص الحالم وحده، بل تعم طائفةً بعينها، أو أهلَ بلدٍ بعينه، وذلك كرؤيا ملك مصر.
وقد مثلنا للرؤيا الخاصة بالرائي وحده،
برؤيا يوسفَ عليه السلام ورؤيا صاحبيه في السجن، وقد وقفنا فأطلنا الوقوف عند رؤيا يوسف، التي وقعت بعد أربعين سنة أو أقل أو أكثر،فقد خرج يعقوبُ وأهلُه إلى “مصر” قاصدين يوسف, فلما وصلوا إليه ضمَّ يوسفُ إليه أبويه, وقال لهم: ادخلوا “مصر” بمشيئة الله, وأنتم آمنون من الجَهد والقحط, ومن كل مكروه. وأجْلَسَ أباه وأمه على سرير ملكه بجانبه; إكرامًا لهما, وحيَّاه أبواه وإخوتُه الأحدَ عشر بالسجود له تحيةً وتكريمًا, لا عبادة وخضوعًا, وكان ذلك جائزًا في شريعتهم, وقد حَرُم في شريعتنا; سدًا لذريعةِ الشرك بالله. وقال يوسف لأبيه: هذا السجود هو تفسير رؤياي التي قصصتُها عليك من قبل في صغري, قد جعلها ربي صدقًا.
أما رؤيا صاحبيه،
فقد ظهرَ للعزيز وأعوانهِ -من بعد ما رأوا الأدلةَ على براءةِ يوسفَ وعفتهِ- رأوا أن يَسجنوه إلى زمنٍ يطولُ أو يقصرُ; منعًا للفضيحة التي بدأت تنتشر راحتُها!
ودخل السجنَ مع يوسف فَتَيان, ساقي الملك وخبازُهُ، فقد اتُهما بالتدبير لقتل الملك، فقال الساقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبًا ليصيرَ خمرًا, وقال الخباز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه, أخبرنا - يا يوسفُ - بتفسير ما رأينا, إنا نراك من المحسنين.
ومعنى ذلك أنه قد ظهر من يوسفَ للرفقائه في السجن أحسنُ السلوك وأطيبُ الأخلاق، وقد كان يوسف يعيشُ في مجتمع مشرك ودولة كافرة،
وهكذا ينبغي أن يعيشَ المسلمُ في الدول غيرِ الإسلامية،
إذا دخلها لزيارةٍ أو إقامةٍ طويلةٍ أو قصيرة، كما نبه على ذلك ابنُ تيمية رحمه الله في منهاج السنة فعلى المسلم إذا دخل دولةً غيرَ إسلامية أن يكون مباركا على غيرِ المسلمين فيها، يحفظ أمنهم ودماءهم وأموالهم، فإنه قد أقام فيهم بمقتضى فيزا أو تأشيرةٍ، أو إقامةٍ أو جنسية، وهي بمثابة عهد الأمان في الفقه الإسلامي، وقد قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ [النحل:91].
فلا غش ولا خيانة ولا غدر ولا تخريب ولا قتل، وقد ثبت في صحيح البخاري حديثُ رسول الله “من قتل معاهَدًا لَم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا "
وفي حديث حسن: أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما يقول عليه السلام:” ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة "
فإذا رحلت أخي المسلم إلى بلدٍ غير مسلم،
فكن كنبي الله يوسفَ عليه السلام إذ عاش في بلد كافر ومجتمعٍ مشرك، داعياً إلى التوحيد بأخلاقه قبل أقواله، وأنقذ عليه السلام شعبَ مصرَ الكافرَ آنذاك من أزمة إقتصادية طاحنة، فكن مثلَه مباركا على أهل كل بلدٍ تنزلُ فيه، ولا تكن شؤما على المسلمين وفتنةً لغير المسلمين تصدهم بأفعالك عن الدخول في الدين الحق! أتدري ما فتنةُ الكفار المذكورةُ في القرآن؟! لقد كان من دعاء أتباعِ إبراهيمَ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً للذين كفروا أي ربنا لا تسلط علينا الكفارَ، فيظنوا بتعذيبهم لنا، أن ديننا باطل، وأن ما هم عليه حق، ويقولوا: لو كان هؤلاء المؤمنون على حق, ما أصابهم هذا العذاب, فيزدادوا كفرًا
وبنحو هذا دعا قومُ موسى رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
فأتباع الأنبياء يدعون ربهم أن لا يكونوا سببا في صد الكفار عن الحق، بسببِ أمرٍ لا دخلَ لهم فيه، فما بالُ أقوامٍ يسعَون سعيا في تشويه صورة الإسلام بعمليات التفجير والتخريب، والتقتيل للأبرياء من غير المسلمين، حتى جعلوا الإسلام في عيون الغربيين، رعبا مكتظا بأنواع العداوات لا يعرف إلا سفكَ الدماء وقتلَ الأبرياء.
وقد أجمع علماءُ الإسلام على أن المسلم إذا دخل دولةً غيرَ إسلامية، فلا يجوز له أن يتعرضَ لأحدٍ من أهلِها والمقيمين فيها بقتل أو ظلم أو أذى، وقد أمرنا القرآنُ بالإحسان إلى الآخر ، فقال (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). الممتحنة: 8
على كل حال فقد دخل يوسفُ السجنَ مظلوما وعاش بين قوم كافرين، فكان بركةً عليهم، ورحمةً لهم، كما قال ربنا على لسان عيسى ( وجعلني مباركا أينما كنت)