“الرؤيا ربما تكون خاصةً بالرائي وحده، وربما تكون عامة لا تخص الحالم وحده، بل تعم طائفةً بعينها، أو أهلَ بلدٍ بعينه،
كرؤيا ملكِ مصرَ فهي تعم أهلَ مصرَ جميعا،
فقد رأى سبعَ بقراتٍ سمان، خرجن من نهرٍ وخرج بعدها سبعُ بقراتٍ عجافٍ - مهازيل - وقد أقبلت العجافُ على السمان فأكلتها،كما رأى سبعَ سنبلاتٍ خضر قد أقبلَ عليهن سبعٌ يابسات فأكلتها!
ونحن نعلم أن حكام مصر القديمة كانوا يُسمَّوْنَ الفراعنة، فكيف يسمي القرآنُ حاكمَ مصر بالملك، أقول: هذا من إعجاز القرآن، فبعد أن اكتُشِفَ " حجرُ رشيد " ، وتم فَكُّ ألغاز اللغة الهيروغليفية؛ عرفنا أن حكم الفراعنة قد اختفى لفترة من الزمان؛ حين استعمر مصرَ ملوكُ الرُّعاة، وهم الذين يُسمَّوْنَ الهكسوس، وكانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها يوسف، ثم استرجع الفراعنةُ بعد ذلك حُكم مصر وطردوا الهكسوس.
وعلى كل حال فهذه الرؤيا هالتْ الملك، وتعجبَ من أمرها، فجمع الكهنة وكبارَ الدولة، فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها، وقال يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي)
فقوله أفتوني يدل على أن الرؤيا فتوى وأنه لا يجوز أن يعبرها أحد بغير علم!
وفي ذلك يقول العلامة خليل بن شاهين في كتابه الإشارات في علم العبارات: ينبغي أن لا تُقص الرؤيا إلا على معبر، ويجب على من لا يعرفُ علمَ التعبير أن لا يُعبِّرَ رؤيا أحد، فإنه يأثمُ على ذلك؛ لأنَّهَا كالفتوى.
وفي كتاب الفواكه والدواني للعلامة أحمد بن غنيم: " يحرم أن يُفسِرَ الرؤيا من لا علمَ له بها؛ لأنه يكون من الكذب؛ قال تعالى:(ولا تقف ما ليس لك به علم ) وهذا ما أدركته حاشيةُ الملك فقد اعتذروا عن التأويل، وقالوا : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ سورة يوسف : الآية 44 ]
والأضغاث جمع ضغث، والضغث: الحزمةُ من حشيش الأرض، المختلطُ بعضُهُ ببعض، قال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا
فالْمَعْنَى: رُؤْيَاكَ لَيْسَتْ بِرُؤْيَا بَيِّنَةٍ، بل هي أخلاطٌ ملتبسةٌ ومضطربة، ولو كانت رؤيا صحيحةً لما كان لنا معرفةٌ بتأويلها!
وحين سمعها يوسفُ من صاحبه الذي نجا منهما فسرها في الحال, ولم يتوقف عن تفسيرها إنتقاما لنفسه بسبب ما وقع عليه من ظلم، بل وزادهم مع التفسير خُطةَ عمل، كانت سببا في نجاتهم من أزمتهم الاقتصادية الطاحنة,
وقد ذكرنا من قبل أن أكثر الرؤى تحتملُ تاويلاتٍ متعددة، وأنه لابد للمعبر أن يبحثَ عن شاهدٍ، يرجح تفسيرا على تفسير آخر،
فللبقر في رؤيا الملك تأويلاتٌ متعددة، فقد تُعبر بالصالحين من الناس لكثرة نفعها، وقد رأى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بقرا تنحر فعبر ذلك بقتل أصحابه في أحد، كما في الصحيحين، وقد رأى شخصٌ ثلاث بقرات مذبحوات على صحن كبير، فعبرتُ ذلك من زمن طويل بموت أكابرِ علماء العصر، ابنِ باز وابن عثيمين والألباني، رحمة الله عليهم،
أما يوسفُ فقد فسر البقر بسنين الخَصب والجدب، والذي رجح له هذا التفسيرَ على غيره السنبلات، فهي شاهد في هذه الرؤيا يشهد لهذا المعنى، ولذلك فقد أخبرهم: أن البقر السمانَ والسنابلَ السبعَ الخَضِرات هي سنواتُ رخاءٍ وخصبٍ متواليات، يأتي بعدها سنواتُ قحطٍ مجدبات ; المرموزُ لها بالبقر العجافِ والسنابلِ اليابسات, وأنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة، ويعدوا العدة للسنين الشديدات، فيزرعون زروعا هائلة أزيد بكثير من المعتاد , ولهذا قال : { تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون } [ سورة يوسف : الآية 47 ] أي فلا يسرفون في الإنفاق , بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير .
. ووجه المناسبة في تفسير البقرات بالسنين أن البقر هي التي في الغالب يُحرث بها الأرض , كما أن البقر سمنها وعجفها تبعٌ لخصوبة الأرض وجَدبِها، فإذا أخصبت الأرض سمنت البقر. وأما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } [ سورة يوسف : الآية 49 ] أي يحصلُ للناس فيه غيث, ويزول عن الأرض جَدبُها , وذلك مأخوذ بفراسته وليس من رموز الرؤيا، فقد استنبطه من تقييد السنين المجدبات بالسبع ; فدل هذا القيدُ على أنه يلي هذه السبعَ ما يزيلُ شدتَها , ويرفعُ جَدبها ; وهذا مما يؤكد أن الفراسةَ لابد منها في تفسير الأحلام.
وقد كان رؤيا الملك وتعبيرُ يوسف لها وتنفيذه للخُطةِ التي رسمها للخروج من أزمةِ مصرَ الاقتصادية من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس . فلولا هذه الرؤيا من الله ثم هذا التعبيرُ وهذا التدبير من يوسفَ لهجمت على الناس السنونَ المجدبات قبل أن يَعُدوا لها عُدتَها فيقعَ الضررُ الكبير والفساد العظيم على مصر و ما جاورها من بلاد الشام, فكان يوسفُ رحمةً بهم وبركةً عليهم، مع أنهم كانوا لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة كافرون، فياليت الدعاةَ يعلمون!