الغالب من الأحلام السيئة: أن يراها الإنسانُ قبل وقوعها بقليل، تمهيدا له لكيلا يُفاجأَ بما يسوؤه من الأحداث والمصائب،
كما أن الغالب من الرؤى الحسنة أن يتأخر وقُوعُها،
وذلك من كرم الله تعالى، إذ يبشرُ بالخير قبل وقوعه بفترة من الزمان، تطول أو تقصر، على حسب مشيئة الرب سبحانه، حتى تستبشرَ النفسُ الإنسانية، وينشرحَ الصدرُ ويسعد القلبُ ،
ومن أجلِ توضيح هذه الحقيقة ذكر البخاري في هذا الباب: بَابِ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ قَوْلَه تَعَالَى { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبرَ أصحابه بتلك الرؤيا وهو بالمدينة، لكن لم يحدد سنةً بعينها لدخولِ مكة،
وَخرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة بِمن مَعَه من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَمن لحق بِهِ من الْعَرَب، يَوْم الْإِثْنَيْنِ أولَ ذِي الْقعدَة سنة سِتّ من الهجرة، وسَاق مَعَه الْهَدْي وَأحرم بِالْعُمْرَةِ ليأمنَ النَّاسُ من حربه، وليعلموا أَنه إِنَّمَا خرج زَائِرًا للبيت ومعظماً لَهُ، ولم يشكْ جماعةٌ من الصحابة أن هذه الرؤيا ستتحققُ هذا العام، فلما منعه المشركون من العمرة، ووقع معهم صلحَ الحديبية، على أن يرجعوا هذا العامَ للمدينة ثم يعودوا للعمرة العامَ القادم، وقع في نفسِ بعض الصحابة رضي اللّه عنهم من ذلك شيء، وقالوا: أين رؤياك؟ وكان النبي قد اشترط على المشركين أن لا يمنعوه من العمرة هذه المرة، فأبوا ، فقال لهم كما في صحيح البخاري:«عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ وهو المفوَضُ لعقد الصلحِ من قِبل مشركي مكةَ: قال وَالله لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ ذلك في بنود الصلح فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ الله كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا، كما َاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُقِيمَ بِمكة إذا اعتمر إِلاَ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ»، قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى, قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَالله إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ فَقُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا. قَالَ عمر: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا انْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا». قَالَ: فَوَالله مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ, فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا
ولما رجع من الحُدَيْبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها اللّه عليه .. ثم رجع إلى المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى مكةَ معتمراً، هو وأهلُ الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، وخرجت رؤوس الكفّار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإلى أصحابه رضي اللّه عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقيةُ أهلِ مكةَ من الرجال والنساء والولدان، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابِهِ، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون. فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع اللّه تعالى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلَدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا ابقاء عليهم، فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد أوهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا " فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمروه أن يخرج من مكة فخرج صلى اللّه عليه وسلم ““رواه البخاري ومسلم””.
وقوله تعالى: { فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} هذا الفتح هو صلح الحديبية، كما يقول أكثر المفسرين، وهو المذكور في أول سورة الفتح إنا فتحنا لك فتحا مبينا.
قال الزهري : ما فتح الله في الإسلام أعظمَ من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتالُ حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحربُ أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة، فلم يُكلَم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثلَ ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنةَ ثمان في عشرة آلاف.