شرح حديث البخاري: “الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ” قوله عليه السلام:" الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ" جاء في بعض الأحاديث " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة " وفي بعض الأحاديث " الرُّؤْيَا الصَّادقة " وجاء هاهنا " الرُّؤْيَا الْحَسَنَة" وكل هذه الروايات بمعنى واحد، وروايات الحديث يفسر بعضُعها بعضا، فالرؤيا الحسنة هي إحدى أنواع الرؤيا الثلاث، ففي الحديث الصحيح: الرؤيا ثلاثة الرؤيا الحسنة بشرى من الله، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان" وهذا الحسن في قوْله عليه السلام: " الرؤيا الْحَسَنَة “، هل هو بِاعْتِبَار حُسن أحداث الرؤيا ومحتواها أَم باعتبار حُسن تَأْوِيلهَا؟
يبدو أن المراد باعتبار ما تؤول إليه الرؤيا من تفسيراتٍ صادقة،
فقد قسم العلماء الرُّؤْيَا من حيث حسنها وسوئها إِلَى أربعة أقسام:
القسم الأول:
الحسنة في أحداثها وفي تأويلها كمن يرى الْأَنْبِيَاء، أو كمن يرى أنه يأكل المآكل طيبة، أو يرى كأنه في أماكن العبادة مطيعاً لربه عز وجل، ونحو ذلك، فهذا خير في المحتوى والتفسير.
والقسم الثاني:
السيئَة في أحداثها وفي تأويلها، كمن يرى حية لدغته ، أو ناراً أحرقته ، أو سيلاً أغرقه ، أو تهدمت داره ، أو تكسرت أشجاره ، فإن ذلك سيئ ، ظاهراً ، وباطناً ، لدلالته على الهم والنكد والخسارة.
والقسم الثالث:
الحسنة في أحداثها السيئة في تأويلها، كشم الأزهار ، فإن ذلك هموم وأمراض، وذلك لأن الأزهار غالبا تطلب لأصحاب الأمراض،أو كمن يرى أنه يتولى منصباً عالياً – لا يليق به – أو يرى أنه يصلي بالنبي عليه السلام فيفسر ببلاء وخطب عظيم يأتيه.
والقسم الرابع:
السيئَةُ في أحداثها الحسنةُ في تأويلها ، كمن يرى أنه ينكح أمه أو أخته، أو يذبح ولده: فإنه يدل على الحج، أو أنه ينفع أمه، أو البر ومواصلة الأهل والأقارب.
ومن ثم فلا ينبغي للحالم أن يعول كثيرا على ظاهر حلمه أو رؤياه، فلا يفرح إن كان ظاهر رؤياه يدل على خير، ولا يحزن إن كان ظاهر حلمه يدل على شر، فالمعول عليه في ذلك أصولُ علمِ التعبير وقواعدُه
وقَوْله عليه السلام: الرؤيا الحسنة من الرجل” الرجلُ هنا للْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهُ فَإِن الْمَرْأَة الصَّالِحَةَ رؤياها الحسنةَ كَذَلِك جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
وأما وجهُ كونها ستةً وأربعين جزءًا فقد اشتهر قول البعض: إن هذا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش ثلاثاً وستين سنة، ومدةُ نبوتهِ منها ثلاثٌ وعشرون سنة، لأنه نُبئَ على رأس الأربعين، وكان أولُ ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان ذلك لمدة ستةِ أشهر أو نصفِ سنة، وهذه المدةُ نصفُ جزءٍ من ثلاث وعشرين سنة، أو جزءٌ من ستة وأربعين جزءً من النبوة، والحقُّ أن هَذَا ليس بمقنع عند جماعة من أهل العلم: لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت أَنَّ زَمَن الرُّؤْيَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِتَّة أَشْهُر،
وقَدْ اُخْتُلِفَ أيضا فِي قَدْر الْمُدَّة الَّتِي كانت بَعْد بَعْثَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْته, وَكذلك فقد جاء في بعض الروايات أنها جزء من سبعين جزءا، وغير ذلك، ومن ثم فإن القدر الذي أراد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبينه للأمة من هذا الحديثِ: أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لأن فيها إطلاعًا على الغيب من وجه ما، أو لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِنْبَاءِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهذا النوع من الرؤيا هو الذي يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كما في حديث “الرؤيا الصالحة من الله” وماكان من قبل الله فإنه لا يكذب، أما ما يكون من حديث النفس ووسوسة الشيطان فإنه الذى يكذب، ومن ثَم فليس له تعبير.
وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( الرؤيا الحسنة …من النبوّة) مجردُ تشبيهٍ وليس حقيقة، لأن النبوّة انقطعت بموته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعلوم أن جزءَ النبوّةِ لا يكون نبوةً، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة.
قَالَ الزّجاج: تَأْوِيل قَوْله: جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة أَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، يخبرون بِمَا سَيكون والرؤيا تدل على مَا يكون.