كانوا يرددون على مسامعنا أيام الثانوية: لابد أن تنتمي لجماعةٍ إسلاميةٍ تعملُ من خلالها لخدمة الإسلام والتمكين له في الأرض حتى يعود له مجده، كانوا يقرؤون علينا الأحاديث الآمرة بلزومِ الجماعة، الناهية عن مفارقتها، بل كانوا يخوفوننا بأن من مات وليس في عنقهِ بيعةٌ لأمير الجماعة، فسيموت مِيتة جاهلية، ولما كنا نسمع من معالم منهج هذه الجماعة عكس ما نسمعه من الجماعة الأخرى، في حوارات ساخنة تسفر دائما عن غلٍ في النفوس، وتعب في العقل، حتى كاد الرأس أن ينفجر من كثرة التفكير والحيرة والتردد، قرر كاتب السطور في هذه المرحلة المبكرة من عمره أن يستجلي الحقيقة بنفسه، فغاص في أعماق الكتب الشرعية، واستنطق نصوصها الهادية، فلم يبصر فيها وجودا إلا لجماعة واحدة لا جماعات، تلك الجماعة التي أمر صاحبُ الشريعة عليه الصلاة والسلام بلزومها دائماً ابداً، سيما حين يظهر دعاةُ الفتن الذين هم في الظاهر مثلنا ومعنا، لكنهم في الباطن مخالفون لنا في أمورهم وأهدافهم، فقال عليه السلام لحذيفة في الحديث المتفق على صحته:
قَالَ : (( نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا )) .
فَقال حذيفةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا .
قَالَ : (( نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا )) .
ققال: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ .
قَالَ : (( تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ )) .
قال: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ ؟ .
قَالَ: (( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ))
في هذا الحديث مخرج من الفتنة في كل زمان، وذلك في وصيته عليه السلام الخالدة:" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" والإمامُ لقب من ألقاب رئيس الدولة في الأدبيات الإسلامية، أما جماعة المسلمين فحين كان يأمر عليه السلام بلزومها وينهى عن مفارقتها في أحاديث كثيرة، لم يكن في المدينةِ إلا جماعةٌ واحدةٌ هي المجتمع المدني المسلم المتألف من قبائل المهاجرين والأنصار، فجماعة المسلمين إذن هي المجتمعُ المسلمُ الملتفُ حول رئيسه في الدولة، وهذا ما صرح به الأئمةُ الكبارُ شُراحُ الحديث كما ذكرنا في المقال السابق، ومن ثم فإن المسلم في ضوء حديث حذيفة السالف بين حالين لا ثالث لهما، الأول: إذا وُجدت الدولة والمجتمع والرئيس، فلا يجوزُ للمسلم مفارقة هذا المجتمع بتكوين تنظيم أو جماعة أو الإنتماء إليها، لما في ذلك من أضرار كبيرة سنذكرها بعد سطور، يدل على عدم جواز الإنتماء في هذه الحال صراحةً، حديثُ ابن عباس في صحيح البخاري «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» والحال الثاني: حالة إنهيار الدولة وفراغ سلطتها، بحيث تكون الأمور فوضى، وتكثر الجماعات والأحزاب المتكالبة على الحكم، وهذا ما سأل عنه حذيفة نبيه أيضا، فقال: “فإذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟” فأجاب عليه السلام “فاعتزل تلك الفرق جميعا” قال الطبري: “في الحديث أنه متى لم يكن للناس إمامٌ فافترق الناس أحزابا، فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشيةً من الوقوع في الشر “
وهكذا نرى بوضوح أن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ينهى عن الإنتماء للجماعات والتنظيمات في جميع الأحوال، في حال قيام الدولة وفي حال إنهيارها، وذلك لما يترتب على تكوين الجماعات والتنظيمات من أضرارٍ كبيرة وعواقبَ وخيمة على الدين والفرد والمجتمع والدولة، نذكرها في مقال قادم، بإذن الله تعالى
والخلاصة أنه لا شرعية لتكوين الجماعات ، كما لا يجوز الإنتماء إليها، ولا البيعة لمرشديها، ولا الطاعة لهم، فياليتها تحلَ نفسَها بنفسِها، وتسرحَ أفرادها!