إشكالية الإنتماء عند الإسلاميين

مما يؤسف له بحق أن نرى بعضاً مِن المتدينين يتحرج مِن فكرة الانتماء للوطن أو يستخف من مصطلح الوحدة الوطنية،

ويحسبها ضعفا في الولاء للإسلام!

كما يترعرع الشباب المنتمون للجماعات والتنظيمات الإسلامية على الإنتماء لها دون غيرها، والولاء التام لقادتها ومرشديها، غير مبالين بالإنتماء للوطن، بل منكرين على المنتمين له أو مستخفين!

وهذا خلاف السياسة الشرعية وما أوصى به نبي الأمة عليه الصلاة والسلام

حين أخبر عن ظهور الفرق والجماعات بدعواتها المتناقضة ودعاتها المختلفين، وذلك حين قال فيما أخرجه الشيخان من حديث حذيفة: “دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها” فسأله حذيفة: فما ترى إن أدركني ذلك؟ فقال عليه السلام: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”

وهذه الجملة النبوية الأخيرة تعني بالمصطلح المعاصر:

الوطن والمجتمع المحيط برئيس الدولة أو كما يقول الإمام الكبير الطبري:“الصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة”

بيان ذلك أن الدولة في تعريف أهل السياسة: “جماعة بشرية تقيم بصفة مستمرة على أرض معينة تخضع لهيئة حاكمة تدير شؤونها الداخلية والخارجية”

ومن ثم فإن للدولة ثلاثة أركان: (الشعب والحاكم والأرض) فقوله عليه الصلاة والسلام: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" يعني أنه حال قيام الدولة بأركانها الماضية، فإنه يجب على المسلم أن يلزم المجتمع المسلم وأن يكون إنتماؤه للوطن وولاؤه للرئيس،

وهذه هي المواطنة في المصطلح المعاصر،

فالمواطنة علاقة فطرية تربط بين المسلم كفرد وبين أركان دولته: الشعب والحاكم (ويعبر عن هذين الركنين في نصوص الإسلام بجماعة المسلمين وإمامهم) ويرتبط هؤلاء جميعا بالركن الأخير، أعني الأرض التي يقيمون عليها.

نعم إن الأصل أن تكون الأمة كلها في وطن واحد،

لكن ذلك قد تعذر من أزمنة بعيدة لأسباب كثيرة، ففي الفترة  الواقعة مابين(سنة 184- 288 هـ)  كانت الأمة الإسلامية مكونة من 6 دول، وبلغ (سنة 803 هـ) مجموع دولها 22 دولة،

فلما تعذر جمع الأمة في كيان واحد، وتمزقت لدول كثيرة وأوطان متعددة، وأصبح لكل دولة رئيس أو ملك أو أمير، أفتى المحققون من فقهاء السياسة الشرعية وعلماء النظام السياسي الإسلامي: أن لكل رئيس دولة ما للخليفة العام من حقوق وواجبات، أو كما يقول الشوكاني:" وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه " وتأسيساً عليه، فإنه يجب على أهل كل بلد البيعة بالسمع والطاعة لرئيس دولتهم مع لزوم جماعته يعني المجتمع ، فهذه هي الجماعة التي أمر الشرع بلزومها، وأنه لا يجوز الخروج عليها بتكوين جماعة غيرها أو تنظيم آخر، لأن ذلك يهدد وحدة الوطن وترابط المجتمع،

يدل على ذلك حديث ابن عباس في صحيح البخاري «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»،فأمر بالصبر على الظلم إن وقع، وحذر من مفارقة الجماعة أو الخروج على المجتمع، ولو بأدنى شئ يهدد وحدته، ومن ثم فإن مصطلح الإنتماء للوطن هو المعنى المرادف للمصطلح الشرعي: " لزوم الجماعة " الذي رفع شعاره (أهلُ السنة)، وعطف (الجماعة) تأكيداً على وحدة الجماعة والنأي عن الفرقة والفتنة، ومن ثم فإن الإنتماء للوطن إنتماء شرعي، والإنتماء للجماعات إنتماء غير شرعي،

وليس ثمة تنافر أبدا بين الولاء للإسلام وبين الولاء للأوطان من وجه من الوجوه المعتبرة شرعاً

إن حب الوطن غريزة مركوزة في النفس البشرية، جاء الإسلام واعترف بكينونتها وأقرها بقوة، وترجمتها إلى الواقع حوادثُ السيرة النبوية وقصصُ تاريخ المسلمين.

ويكفي على ذلك دليلاً: أن الإخراج من الأوطان استمر عقوبة موجعة منذ فجر التاريخ البشري، وجاء الشارع الإسلامي فاختارها عقوبة من العقوبات كما في الحرابة وزنى غير المحصن، وكان قد عاقب الله تعالى اليهود فأخرجهم وجعلهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يتخبطون الليل والنهار، بل قبل ذلك عند ميلاد البشرية عاقب الله تعالى أبانا آدم فأخرجه من وطننا الأول!كما قال  ابن القيم:

فحي على جنـات عـدن فإِنـهـا … منازلك الأُولى وفيها المخيــــم ولكننا سبى العـدو، فـهل تـري … نعود إِلى أَوطاننـا ونسلــــم

ولا تعني المواطنة بحال كما يتوهم البعض أن يعبد المسلم وطنه من دون الله، كما أنها لا تعني أن ينعزل كل مسلم في وطنه منفصلا عن عرى الدين وهموم الأمة، لا يتداعى بالسهر والحُرقة مع سائر أعضائها أوطانا وأفرادا، فانتماء المسلم لوطنه الذي يعيش فيه، ما هو إلا دائرة من دوائر الانتماء التي شرعها الإسلام، وجعلها بحكمة بالغة تتداخل ولا تتعارض.

إن عدم وضوح مفاهيم الوطنية أو المواطنة في الإسلام قد أدى بالفعل إلى تآكل غير قليل في بنيان الوحدة الوطنية، بالإضافة إلى حدوث شرخ في جدار التعايش السلمي  بين أفراد بعض مجتمعاتنا في أمتنا الواحدة، وهو نذير شؤم على البلاد والعباد.