الغلو ربما يكون في أمور الدين كلها، أو في بعضها،
غير أن أقبحه وأخطره: الغلو في التكفير!
فاترك أمر التكفير لأكابر العلماء يا ولدي فإنه دقيق وخطير ويترتَّب عليه للكافر المرتد أحكام عظيمة، كاستحقاق اللعنة وعدم المغفرة، ثم الخلود أبد الآبدين في جهنم، عياذا بالله، هذا إلى جانب أنه لا يرث ولا يورث، وتحرم الصلاة عليه والاستغفار له، إلى غير ذلك من أحكام كثيرة!
فلا عجب أن يشدد الشارع في أمر التكفير،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(( من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله )) أخرجه البخاري.
وقال عليه السلام: ((أيّما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعتْ عليه)) متفق عليه.
واعلم يا ولدي:
أنه قد اتفقت كلمة علماء الدين أن الأصل في المسلمين، حكاماً أو محكومين، بقاء إسلامهم حتى يتحققَ زوال الإسلام عنهم بمقتضى الدليل الشرعي من صريح القرآن وصحيح السنة، فلا يكفر من المسلمين إلا من كفره الله ورسوله، أو أجمع العلماء على تكفيره، لأن التكفير حكم شرعي، وحق لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، فالكافر من كفره الله وحده.
واعلم أن المحققين من السادة علماء الدين لا يُفتون بكفر مسلم أمكن حمل كلامه أو فعله على محمل حسن، أو كان في كفره اختلاف بينهم.
فمن ثبت إسلامه بيقين، لَمْ يزل عنه إسلامه بالشك والاحتمال.
كما لا يجوز تكفير أحد من المسلمين حتى تقوم عليه الحجة، وتزول عنه الشبهة، كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)
وليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه وكان كافرا
فقد يكون القول أو الفعل كفرًا بنص الكتاب والسنة ؛ ولكن من فعل هذا الفعل أو قال هذا القول لا يكفر لوجود عذر عنده يمنع من تكفيره، فافهم هذا كله يا بُني فإنه دقيق جدا لم يستوعبه الغلاة المكفرون بغير حق ولا هدى!
وإياك ثم إياك ياولدي وتكفير الحكام والمسؤولين، فإنه خطير جدا، لما يترتَّب عليه من خروج على الأنظمةِ والحكوماتِ بالثوراتِ والانقلاباتِ، وما يعقُبُ ذلك من فتن ودماء وويلاتٍ
وهل أتاك نبأ الغلاة المكفرين لحكامنا إذ يستشهدون بآيات ليست على ظاهرها كما نبه على ذلك أكابر أهل العلم، وأضرب لك على ذلك مثلا بآيتين عظيمتين، يرددهما بكثرة أصحاب الفكر التكفيري:
قال حافظ أهل المغرب أبو عمر ابن عبد البر : " وقد ضلَّت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } " [المائدة:44]}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهذه الآية { ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا[ [النساء:65]} مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله”.
يا ولدي: إن هؤلاء الغلاة يعتقدون أن كل قانون ليس مسطوراً في نصوص القرآن والسنة يحرم الاحتكام إليه ويكفر المشرع له، وهذا غلط كبير، فقد قرر السادة العلماء أن القوانين الوضعية ليست كلها باطلاً، فإذا كانت تحقق المصلحة للناس والعدل بينهم فيجوز الحكم بها، بشرط أن لا تخالف نصوصَ القرآن والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الشريعة ومقاصدها وأصولها العامة.
قال ابن عقيل: “السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لَم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.. فقد جرى من الخلفاء الراشدين.. ما لا يَجحده عالم بالسنن، ولو لَم يكن إلا تَحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة”.
وفي هذا السياق يقول ابن قيم الجوزية:
“ومن قال: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة "
وتمادى أصحاب الفكر المنحرف في عمايتهم فنادوا في الناس أن بلداننا العربية والإسلامية دار كفر وليست بدول إسلام، وهذا خلاف اعتقاد أهل السنة، وما رآه علماء المذاهب الأربعة، بل هو اعتقاد فرقة المعتزلة!، فالمسلمون يسكنون بلادنا، وهم ممكنون منها، وآمنون فيها، وشعائر الإسلام مِن جُمَع وجماعات وأعياد ظاهرة، وهذا يكفي للحكم على بلادنا أنها بلاد إسلامية!
وفي ذلك يقول الحافظُ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه ((اعتقاد أهل السنة)) ((ويرون الدارَ دارَ إسلامٍ لا دارَ كفرٍ - كما رأته المعتزلةُ- ما دام النداءُ بالصلاةِ والإقامةِ بها ظاهِرَيْنِ، وأهلُها مُمَكَّنين منها آمِنين))([1]).
برهان ذلك حديث أنس المتفق عليه (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الأذان، فإن سَمع أذانًا أمسك وإلا أغار)) ([2]). ففيه دليل واضح أن وجود بعض أحكام الإسلام الظاهرة كافٍ للحكم على الدار أو الدولة بالإسلام.
([1]) ((اعتقاد أهل السنة)): (51).
([2]) متفق عليه: البخاري (610)، ومسلم (1365).