بسم الله الرحمن الرحيم
ابني الغالي السلام عليك ورحمة الله وبركاته
أكتب إليك هذه الرسالة، وأنا أدري أن الله سبحانه منحك حرية اختيار ما تشاء من مناهج ومذاهب وأفكار ومعتقدات !!
لكن حنان الأبوة! وما مر بي من تجارب كثيرة، وأفكار شتى، ومذاهب متنوعة، جعلت لزاما علي أن أكتب لك خلاصة تجربتي، وأسطر في هذه الورقات صفوة ما وصل إليه علمي، فهذا حقك المحتوم، كيلا تقع فريسة لمخالب الحيرة، ولقمة سائغة لمروجي الفتن وسفاكي الدماء.
واعلم يا ولدي أنه لا أحد أنصح لك، ولا أرحم بك بعد الله مني، لذلك يجب عليك أن تصغى إلي، وتجتهد في فهم إرشادي ونصحي! و لا أخفي عنك أن أخشى ما أخشاه عليك الغلو في الدين! إذ هو الأكثر فساداً في الأرض، والأشد هلاكاً للمجتمعات، والأعظم إثما من الفجور وشرب الخمور!
أما سمعت نبيك عليه الصلاة والسلام يقول: ( يا أيها الناس إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ) .
أتعرف ما الغلو يا ولدي؟
إنه التشدد والمبالغة في الأمور، وترك التوسط والاعتدال فيها، فالحق يا بني واسطة بين الإفراط والتفريط، أو بين الغلو والتقصير, وكلاهما مذمومان!
و"ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
1.فإما إلى غلو ومجاوزة .
2.وإما إلى تفريط وتقصير
وقد يجتمعان في الشخص الواحد ..
يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه، غاليا متجاوزا في بعضه
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل فى هذين الواديين: وادى التقصير، ووادى المجاوزة والتعدى، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
قال ذلك ابن قيم الجوزية، ثم ضرب عليه الأمثال، فكان منها:
قَصَرَ بقوم فى حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصى والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذى ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة…
**وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة. **
أضرار الغلو
غير أن الإفراط والغلو أضر من التفريط والتقصير!
فالغلو بدعة في الدين، تنافي سماحة الإسلام، وتنفر الناس من التدين به والدخول فيه، بل الغلو أحد أسباب الخروج من الدين والردة عنه، كما أنه يؤدي إلى ضعف الأمة وهلاكها، وتسلط الأعداء عليها.
فالإسلام مبني على اليسر ورفع الحرج، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة، والسماحة تتنافى مع الغلو والتشدد، فقد ثبت في مسند أحمد أنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم لعب الحبشة في المسجد ، و نظرت عائشة إليهم - : “لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ “.
بل كان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه حين يبعثهم:
« يسروا ولا تعسروا »
يا بني، إن أهم سمات إسلامنا العظيم، وأخص خصائص أمتنا المرحومة: الوسطية والتوازن والاعتدال، كما قال عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي وَسَطًا بين الإفراط والتفريط في جميع أصول الدين وفروع الشريعة، فدين الله وسطبين الغالي والجافي، والإسلام وسط بين الأديان كلها، وأهل السنة هم أهل التوسط والاعتدال في كل أمور الدينّ! فهم المتوسطون بحق بين فرق الأمة وطوائفها جميعها!
أي بني: كما لا أريدك مفرطاً في أمور الدين أو متهاوناً! لا أريدك غالياً فيها أو متشدداً ومتعنتاً!
فارفق بنفسك إن أردت أن تستقيم على الدين الحق وتثبت عليه، واترك الغلو والتعمق، ولا تشدد على نفسك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: “ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق " وقال: ” هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ (قالها ثلاثا) كما في صحيح مسلم ، أي : المتعمقون الغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم “ هكذا قال النووي في شرحه.
وجاء في صحيح البخاري: " إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّالدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا " قال ابن حجر: " المعنى : لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق ، إلا عجز وانقطع فيغلب " ، ولهذا أَمَرَ النبي عليه السلام في آخر هذا الحديث بالتسديد والمقاربة والتوسط ، ليتحقق الثبات على الدين بلا انقطاع ولا تخلف.
يا ولدي إن من سنة الله تعالى أن من شدد على نفسه شدد الله عليه، ومن ثم يهلك ويخسر خسراناً كبيراً، كما دل عليه حديث “ لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من قبلكم بتشديدهم على أنفسهم “
فكن وسطا بين الغلو والتقصير، أو بين التفريط والإفراط في سائر الأمور وجميع الأشياء.