رابطة الدعاة في مالي L igue des Predi cateurs au Mali

مكتب البلديّة الخامسة بالعاصمة COMV النشاطات الدعوية والثقافية والتوعوية

ندوة علميّة بعنوان:

أزمة شمال مالي الجذور التاريخية والسياسية

تاريخ التوارق في شمال مالي

د.عبد الرحمن سيسي

تمرُّد التوارق ضدَّ الدولة من عام 1963م إلى2012م، الأسباب والمبرِّرات

د.عبد القادر ميغا

التمرُّدُ الحالي بشِقَّيْه السياسي والجهادي

د.هارون المهدي ميغا

بماكو

يوم الأحد 6/7/1433هـ 27/5/2012م

**
**

تاريخ التوارق في شمال مالي

د.عبد الرحمن عبد الله سيسي

في هذه العُجالة سوف نتناول التوارق من خلال العناصر الآتية:

- المصطلحات التي أُطلِقَتْ عليهم (أسماؤهم)

- أصولهم

- حياتهم الاجتماعيّة

- حياتهم الاقتصاديّة

- حياتهم السياسيّة

أسماؤهم:

عُرِف الشعب التارقي بأسماء متعدِّدة حسب اختلاف الزمان والمكان، ومنها:

بربر:

تردَّد هذا المصطلح في كتبات العرب؛ لتعيين القبائل الأعجميّة القاطنة بشمال القارة الأفريقيّة. وزعموا أنّ أفريقش بن قيس هو أوَّل من استخدم المصطلح ساخراً ومُتهكّماً بأصوات لغاتهم الصاخبة والمختلطة.

المُلثَّمون:

عندما أخذ الكُتَّاب يقصدون التحرِّي والدقَّة استخدموا مصطلح ( المُلثَّمون) لتخصيص قبائل بربريَّة معيَّنة، ويقول ابن خلدون: (( هم المُلثَّمون الموطّنون بالقفر وراء المال الصحراويّة بالجنوب…وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان)) [ كتاب العبرط1، 2/2287]. وأخرجهم من الجنس البربري العامّ بنعتهم بالتلثُّم، وتحديد موقعهم الجغرافي.

الطوارق، التوارق، التوارك:

ظهر هذا المصطلح عند الكُتّاب السودانيين مستبدلاً بالمُلثَّمين في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ولكن لم يُحدِّدْ أصل التسمية، ومقصودها. ويقول السعدي: (( التوارق هم المسوفة، ينتسبون إلى صنهاجة، وصنهاجة يرفعون أنسابهم إلى حِميَر، وليس بينهم وبين البربر نسب إلاّ الرحم، وأنّهم خرجوا من اليمن وارتحلوا إلى الصحراء، موطنهم بالمغرب))

أصولهم:

تباعدتْ وجهات النظر في أصل التوارق، وبعضها منسوجة في منوال الأسطورة، ولكن لها مغزى اجتماعي، لتعبيرها عن نظرة الشعوب المجاورة لهم إليهم، منها:

أ‌-براءة آدم عليه السلام منهم، ونفيه انتسابهم إليه، كما ورد على لسان الشاعر الأندلسي السمسيري:

رأيتُ آدم في نومي فقلتُ لهأبا البريّة إنّ الناس حكموا

أنَّ البربر نسلٌ منك، قال-إذن-حواء طالقة إن كان ما زعموا

ب‌- هُجنا ء من إماء فارسيّات وآباء من الجنّ؛ فجمعوا بين طبيعة الجنّ وصورة بني آدم. وهذا يُمثِّل وجهة نظر سنغي(سنغاي) التي تفترض وجود علاقة نسب ووشيجة قرابة بين الطوارق(البربر) والشياطين من حيث الطبع والسلوك[ تاريخ الفتاش ص29].

ج- ادِّعاء العروبة [انظر: تاريخ السودان للسعدي ص25، والتوارق، للقشاط ص73]

د- دعوى اليهوديَّة. هذا الرأي لا تستند إلى دليل تاريخي قويّ.

هـ - أخيرا: أعتقد أنّ التوارق من القبائل الحامية القاطنة في شمال أفريقيا، وتعرَّتْ لغزوات خارجيّة نتج عنها اختلاط عرقي ودموي بين الغُزاة والمغزوِّين، واندمج فيهم اليهود للتقارب اللَّوني عند ما أراد ملوك سنغاي البطش بهم [ راجع تاريخ الفتاش 62].

التوارق والمواطنة:

للتوارق حقُّ المواطنة التاريخيّة، والمدنيّة الحديثة، وهم أقليَّة يسكنون في شمال جمهوريّة مالي من تنبكتو…بإقليم موبتي، مجاورين للقبائل الأخرى حتى حدود الجزائر والنيجر.

حياتهم الاجتماعيّة:

يتميَّز المجتمع التارقي بالتماسك والتعاضد؛ وذلك لاحترامه البناء الهرمي التسلسلي الذي يتألَّف من الأسرة التي تعدُّ الخلية الصغرى ، وتسمَّى (الخيمة). فالعشيرة التي تتألَّف من أسر متعدِّدة تربطها قرابة الدم والولاء. فالحيّ(الحلّة) التي تمثِّل مجتمعا كبيرا. فالقبيلة التي تتكوَّن من مجموعة من الأحياء التي تنتمي إليها.

الطبقات الاجتماعيّة:

يتألَّف المجتمع التارقي من طبقات أهمُّها:

أ‌-طبقة الأحرار النبلاء، وتنقسم إلى:

1- إموشار Imouchar أو إمازيغان Imajghan.

2- طبقة الأحرار غير طامحين في الزعامة، إمغاد Imagad، وإدنان Idnan.

ب- الطبقة المتديِّنة أو المتفقِّهة Inesemes: 1-الأشراف2- كَلْ انتصار3-كَلْ السوك

ج- الطبقة الدنيئة:

1- المولَّدون من إموشار وغيرها Iregeynaten

2- الحرفيون والمهنيُّون أو الحدَّادون والفنّانون

3- العبيد المملوكون Iklen و Bella

حياتهم الاقتصاديّة:

إنّ التوارق لَشعبٌ غاصٌّ في عمق المعاجم؛ فأدرك معاني مادّة مهن وحرف، ووعاها فترفَّع عن كلّ ما له علاقة بهذه الجذور؛ لعلاقتها الوثيقة بالعبوديّة والدونيّة حتى الزراعة. (( ويحتقر التوارق الزراعة ولا يحسنونها أصلا، ويعدُّونها من عمل العبيد))[التوارق، القشاط ص85]. حتى التجارة قلَّ أن تجد تارقياًّ يحترف التجارة. إنّما اختاروا لأنفسهم مصادر رزق يرون فيها شرفا، ويجدونها فخرا، وارتاحت إليها نفوسهم، ولا لوم ولا عتاب!! وهم أحرار، ولهم الحريَّة المطلقة. ومن تلك المصادر:

1-الغارات القبلية، أو النهب المسلَّح وقطع الطريق، حيث يسرقون مواشي القبائل المجاورة بل يسرقون أطفال القبيلة ويستعبدونهم ويستغلُّونهم أبشع استغلال، ولا فرق بين التوارق والعرب في هذه الظاهرة؛ ولذلك اشتهر العرب عند السوننكيين بـ" سُرَكَ" (السُرَّاق). وقد ارتبطت العروبة عند قبائل الصحراء بالسرقة وبخاصَّة سرقة الأطفال، ولا يزال العرب الموريتانيون يمارسون هذه الظاهرة اللاإنسانيّة في حقّ جيرانهم السود، سكّان القرى الحدوديّة –حسب علمي- حتى اندلاع ثورة 26 مارس 1991م وطغيان التمرُّد التارقي، حتى تنَّبه الشعب المالي للخطورة، وقدَّموا حلولا مناسبة.

2- خدمة العبيد: حيث يقوم العبيد وBella لكلّ الأعمال الشاقَّة، ويعيش السادة النبلاء من عروقهم ودمائهم.

3- طرق القوافل ( الأدلاّء)، رشَّحهم موقعهم الجغرافي لأن يكونوا حقل وصل بين الشمال الأفريقي والمدن الأفريقيّة جنوب الصحراء؛ فقاموا بدور الدليل أو التكشيف على مدار التاريخ. ويقول ابن بطوطة: (( التكشيف اسم لكلّ رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة))[ رحلة ابن بطوطة 676].(( واكترينا التكشيف في هذه السَّفرة بمئة مثقال من الذهب، وهو من مسوفة))[ المصدر نفسهص676]، (( ولمَّا عزَمتُ على السفر إلى مالي….اكتريتُ دليلا من مسوفة))[ المصدر نفسه 678].

4- التسوُّل: في حالة العجز لا يأبون عن التسوُّل والتكفُّف مُستغلاًّ علاقة الجوار والتاريخ.

وقد ظلّ بعض التوارق أوفياء لتلك السلوكيات حتى الآن؛ فاشتدّ التلازم بينهم وبينها تلازم البعير رُغاءه، وتدلُّ عليهم دلالة البعرة على البعير، والدخان على النار، وكلّ ما سمع الناس تمرّدا واختطاف ممتلك ربطتْ أذهانهم بين الحادثة والتوارق.

وقد استحدثوا وسائلها:

1- إثارة الثورات المسلَّحة، وإرهاب الحكومات الضعيفة، والتحكُّم في الحكَّام الخَوَنَة بمطالب خياليّة على الشعب المنتج البريء، كوضع جمهورية مالي من تأسيس حزب UDPM إلى اليوم.

وقد احتلّ أفراد من التوارق باسم الشماليين المناصب السياسية والإداريّة والعسكريّة وما زادهم إلاّ تمرُّدا {{ وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقا}} [ الجنّ 6]. ولم تُجدِ المعاهدات، ولم تَشْفَع المناصب التي تبوئوها من غير حقٍّ ولا استحقاق.

2- اختطاف السُّيَّاح الأجانب من المعاهدين والذميين الذين وفدوا إلى هذا الوطن الحبيب بتأشيرات منحتها السفارات أو القنصليّات الماليّة المعتمدة في الخارج، وبيعهم للقاعدة أو المطالبة بمبالغ.

3-استغلال المنظَّمات في تمويل مشاريع وهميّة لن تُنفَّذ، بل تنفق الأموال في الكماليات كاللباس الفاخر، والسيارات الفاخرة، والتجوال بين صحراء الشمال والعاصمة.

وقد أُفِقتْ مبالغ طائلة (خياليّة) باسم التنمية في الشِّمال، ولكن دون تنمية، ولا تزال الحاجة ماسَّة إلى ضروريات الحياة من ماء ودواء، وتكثر الوفيّات في الأطفال حتى كأنّ النساء الشماليات يلِدْنَ للموت.

4- تجارة المُخدِّرات وقطع الطرق: وقد فقدتْ الحكومة المركزيّة السيطرة على الأقاليم الشماليّة ما يزيد على عشرين عاما، أو سلَّمتْها قصدا لقُطَّاع الطرق تختطف السيَّارات، والسُّيَّاح الأجانب؛ فينتهي المسلسل التراجيدي بواسطة وجهاء التوارق، والإشادة بجهودهم في استقرار الأمن والسَّلامة، ومنحهم جوائز وميدليّات، دون ضبط الجناة وعقابهم. وقد قصرت الدبلوماسيّة الماليّة هدف التمرُّد المندلع 23 مايو 2006م في حماية طرق تجارة المخدِّرات، وتهريب الأسلحة، كما ورد على لسان وزير الخارجية ورئيس الدبلوماسيّة الماليّة معالي السفير مختار وان في مؤتمر صحفي عقده مع السفراء والمنظمات والهيئات الدوليّة المعتمدة لدى جمهورية مالي.

حياتهم السياسيّة:

تثبت الكتب التاريخيَّة أنَّ التوارق من الشعوب المكوِّنة لمماليك غرب أفريقيا وإمبراطوريّاتها ولكن لم يعرفوا نظاما سياسيًّا، ولم يؤسِّسوا دولة متعارَف عليها كغيرهم من الشعوب[انظر: التوارق، القشاط، ص32] إنَّما جرتْ عادتُهم باستغلال الأحداث وانتهاز ضعف الأنظمة السياسيّة لقضاء وطَرِهم، كما فعلوا مع أهل غانة ؛ إذ انتهزوا ضعفها فاستغلّوا اسم الإسلام والجهاد لتأسيس دولة المرابطين. يقول ابن خلدون: (( ثمّ إنَّ أهل غانة ضعف مُلكُهم، وتلاشى أمرهم، واستفحل أمر الملثَّمين المجاورين لهم من جانب الشمال ممَّا يلي البربر، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم، واقتضوا منهم الإتاوات والجزي، وحملوا الكثير منهم على الإسلام فدانوا به))[ العبر2/2479]

لا أدري ولا أكاد أدري أيُّ إسلام حملوا عليه الناس؟ وأيُّ إسلام كان عليه أهل غانة قبل الجهاد المُجهِض؟ وقد نقل ابن خلدون نفسه قوله: (( وكان أهل غانة قد أسلموا في أوّل الفتح الإسلامي، وذُكِر أنَّ بغانة جالية إسلامية كبيرة، وعددًا من المساجد(12) مسجدا منذ عام 60هـ 680م))، بل أسلم ملكها السوننكي تُلُوتَان Tloutan حوالي 222هـ 877 م بينما يؤرِّخ للدولة المرابطيّة الجهاديَّة بزعيم قبيلة لمتونة محمد المعروف بـ: تارشتي 424هـ 1033م، وعبد الله بين ياسين ت 440هـ بفارق 202عام.

بل إنّ الملك غير المسلم الذي يتعاقب ملوكها المسلمون يقرِّب المسلمين ويحترمهم، ويعتمد عليهم في تسيير أمور الدولة، أيُّ إسلام يجيز قتال مَنْ لم يقاتل المسلمين ولم يتصدَّ للدعوة؟

إنّ التاريخ يعيد نفسه!! وقد انسحب جيش مملكة مالي من تنبكتُو أمام سلطان موشي الذي دخل فيها وأفسدها وحرَّقها وخرَّبها، وقتَّل، فوَلَّى إلى أرضه، ثم رجع إليها أهل مَلِّ وملوكها مئة عام من 637هـ إلى 737هـ.

في آخر دولة أهل مالي أخذ توارق مقشرن (مسوفة) يغيرون على المدينة ويفسدون في الأرض من كلِّ جهة، حتى انسحب النظام المالي، وطرد التوارق حامياتهـ وحكموا تنبكتو وأروان وولاتة أربعين عاما بدءا من 737هـ حتى حرَّرها سُنِّي علي بير في 4/5 رجب 873هـ وذلك بعد ثلاث سنوات من اعتلائه مملكة سنغاي إذا استولى عليه 879هـ؛ فهرب زعيم التوارق أكِلِّ أَكَمَلْوَلْ.

وقد حدث حراك شديد بين التوارق ومجاهدي مملكة دينا بماسينة.

وهناك محاولات مبذولة لمكافحة الاستعمار انتهت بتوقيع اتفاقيّات ومعاهدات.

وقد أعاد التاريخ نفسه فحكموا الشمال شهرين من 30 مارس 2012م إلى اليوم.

د.عبد الرحمن عبد الله سيسي

أستاذ في المدرسة العليا لإعداد المعلمين

بماكو 6/7/1433هـ 27/5/2012م

**
**

تمرُّد التوارق ضدَّ الدولة من عام 1963م إلى2012م

الأسباب والمبرِّرات

د.عبد القادر إدريس ميغا

**
**

إن شمال مالي يعاني منذ عشرات السنين بما يمكننا أن نطلق عليه تمرد الطوارق، وإن كان التمرد قد وصل حِدَّتَه حديثا، ابتداء من سنة 1990م إلى يومنا هذا، إلا أن لها جذورًا عميقة في القدم.

ولا يمكن معرفة أسباب هذا التمرُّد من غير أن نعرف ماذا كانت عليه حالة الطوارق أثناء الاستعمار حتى الاستقلال، يعني حتى سنة 1960. ومن الصعب أن أسوق الأحداث المتعلقة بمحاولة انفصال الطوارق في تفاصيلها بيد أنني سأحاول أن أقدم إليكم أهم الأحداث المتعلقة بتمرُّدات الطوارق المتكررة.

وسأتناول هذا الموضوع في مرحلتين: قبل وبعد الاستقلال.

قبل الاستقلال :

كان الطوارق مثل غيرهم من سكان جنوب الصحراء قد عارض أكثرهم الاستعمار بقوة، ولكنهم كغيرهم انهزموا أمام أسلحة المستعمر الفتاكة، ومع ذلك لم يرضَ الطوارق بالهزيمة، وكانت معرفتهم بطبيعة الصحراء وسهولة انتقالهم في أجزائها ممَّا ساعدهم على النجاة من سيطرة المستعمر عليهم سيطرة كاملة. وكانوا ينظرون إلى احتلال الفرنسيين للصحراء تهديدا لهم؛ ولذلك كلما سمُحتْ لهم الظروف ثاروا على القوة المستعمرة، وأشهر هذه الثورات هي الثورة التي قادها فِهْرُومْ أَغْ مُلُول سنة 1916 في أدرانبكان. وكانت النتيجة هزيمته وفراره أمام المستعمر.

أما فكرة انفصال الطوارق عن السودان الفرنسي فقد بدأت تظهر بشكل ضعيف سنة 1957 عند ما حصلت الدول المستعمرة على نصف الاستقلال الذاتي، وحين كتب محمد علي الطاهر من ليبيا (وهو رئيسقبيلة كلنتصار في تلمسي سابقا) رسالة وأرسلها إلى أخيه محمد المهدي وإلى جميع رؤساء القبائل في الصحراء يدعوهم فيه إلى رفض الالتحام مع السود في دولة واحدة.

وبعد هذا أعلنت فرنسا رسميا ولأوّل مرة عن رغبتها في تأسيس تنظيم تجمع أقاليم الصحراء باسم المنطقة المشتركة لأقاليم الصحراء

Organisation commune des Régions Sahariennes(OCRS)

وكان الهدفالحقيق لهذا المشروع في نظر الفرنسيين تحديد المناطق الغنية بالمعادن من الجزائر وشمال مالي والنيجر والشمال الغربي من تشاد وضمها تحت دولة واحدة لصالح فرنسا. ومن عامل الصدفة كان الطوارق من سكان هذه المناطق. وكان المستعمر يُبَرِّر رغبته هذه بالاستجابة لهم في عدم رغبتهم الخضوع لسيطرة السود.

وعلى الرغم من معارضة كثير من نواب أفريقيا السوداء في برلمان فرنسا تم تأسيس هذه المنطقة على الورقة، بالقانون الفرنسي رقم57-7-27 من 10 يناير 1957 الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ 12/ يناير 1957.

وكانت المرحلة اللاحقة هو العمل من أجل تحسين وتطوير مستوى المعيشة لهؤلاء الطوارق إيحاءً لهم بالاهتمام بهم، وتحقيق الترقية الاقتصادية والاجتماعية لهم المعتمدة على تقاليدهم وهويتهم الثقافية.

ولكن هذا المشروع قد فشل لسببين رئيسين: من ناحية لأن حكومة جمهورية السودان (مالي اليوم) برئاسة مودبو كيتا قد عارضت –بقوة- محاولة التقسيم؛ لأن هذه الأجزاء من الصحراء أرض السودان الغربي منذ الأزل، وليس للطوارق أرض يطالبون بها فيها.

ومن ناحية أخرى لأن رؤساء القبائل والعشائر من السنغاي والطوارق أنفسهم قد عارضوا الانشقاق. – " ففي سنة 1959 جمعت الإدارة الفرنسية في غاو الزعماء والرؤساء لقبائل ما يسمي اليوم بالمنطقتين السابعة والثامنة، حضره تيلجات ممثلا لميناكا، و أيوبا عن أنسونغو، وبادي عن غاو، وعثمان عن بورم، وانتالا عن كيدال “يمثل والده الطاهر” وقد عرض عليهم مشروع “المنطقة المشتركة للمناطق الصحراوية” فرفضوه بالإجماع.

و في أكتوبر1959 جاء المستعمر إلى كيدال حيث عقد اجتماعا كبيرا مع وجهاء الطوارق بحضور وفد يمثل حكومة الجمهورية السودانية برئاسة”مادييرا كايتا” وخلال هذا اللقاء طُرح السؤالُ التالي بكل ما فيه من وضوح ودقة،طرح على الزعماء السبعة لقبائل الأدرار في الايفوغاس:” السودان يتجه نحو الاستقلال فهل يرغب الأدرار أن يكون طرفا في هذا الاستقلال أو يفضل أن يبقي مع فرنسا؟

وبمثل الوضوح الذي كان عليه السؤال جاءت الإجابة على لسان المتكلم باسم القبائل السيد الطاهر أغ ايلي” لقد قاتلنا فرنسا ونحن جماعة وهزمتنا ونحن جماعة واستعمرتنا ونحن جماعة وهي تواصل استعمارنا جماعة أو تعيد لنا حريتنا جماعة، أن تفرقنا أمر لا سبيل إليه.

وتم سحب فكرة الانشقاق تماما من الساحة السياسية أثناء الاجتماع الأول لحكومة جمهورية السودان بحضور المفوض الأعلى لفرنسا ومفتش المستعمرات الفرنسية. ولكن جرثومة الانشقاققد بقيتفي نفوس أصحابه. وأخذت هذه الجرثومة تكبر وتتسع في أوساط الطوارق وبخاصة لما ظهرت عوامل أخرى سأتحدث عنها في محلها.

بعد الاستقلال :

قبيل الاستقلال كان الطوارق موزعين بين الانشقاق والانضمام إلى جمهورية مالي. واستمر رئيس كلنتصر وهو زعيم حركة الانفصال في عناده وفكرته الانفصالية، وأدى ذلك إلى قيام الثورة الطارقية الأولىسنة 1963م في منطقة إفوغاس داخل أراضي مالي، وتم حسم هذه القضية عسكريا سنة 1964م.

وساعد على إنهاء هذه الثورة إيقاف محمد الطاهر من قبل السلطات المغربية، وزعيم ثورة إفاغاس من قبل السلطات الجزائرية وتحويلهما إلى السلطات المالية، ولكن لا تزال هناك مَنْ تأصلت فكرة الانفصال في ذهنهم، وهؤلاء وجدوا ملجأً في بلد من بلاد المغرب.

وبعد هذا الوقت، ومن أجل منع قيام ثورات أخرى جعلت حكومة مالي الطوارق تحت المراقبة الشديدة بتكثيف حضور الجيش في الصحراء، وتحويل غاو إلى المنطقة العسكرية الأولى.

ثورة 1990م:

الحديث عن مجريات الأحداث المتعلقة بهذه الثورة ليست مجدية بقدر أهمية الأسباب المؤدية إليها وتحليلها، ولذلك سأتناول هذه الأسباب موضحا دورها في قيام الثورة.

يمكن أن نحدد أسبابا ثلاثة لهذه الثورة:

أولا: الجفاف :

في بداية السبعينيات ظهرت كارثة طبيعية من شأنها تغيير حياة القبائل الرعوية إلى الأبد، تتمثل في الجفاف الذي وصف بالجفاف الأكبر في سنتي 1972 و 1973 ونتيجة لهذا الجفاف فقد القبائل الرعوية أكثر من نصف دوابهم، وصحبت ذلك المجاعة والفقر الشديد أدى بالطوارق إلى الرحيل تارة إلى المدن الكبرى على النهر مثل غاو وتمبكتو، وتارة إلى الدول المجارة مثل النيجر ونيجيريا وتشاد والجزائر ولكن اتجاههم نحو ليبيا كان أشد بسبب غناها المستمدة من النفط. ولا يزال جزء من هؤلاء الطوارق إلى يومنا هذا في غدامس بليبيا التي أعلنها القذافي” وطنا “ للرجال الزرق.

ثانيا: التدرُّب على استعمال الأسلحة الثقيلة في ليبيا .

وفي سنة 1986 اتفقت السلطات المالية والسلطات النيجرية على العمل المشترك معا من أجل تحرير أراضي مالي أولا ثم أراضي النيجر من أيدي الطوارق. وكانت النتيجة أن اتحدت الطوارق في النيجر ومالي ، ونادوا معا ولأول مرة باستقلال صحراء مالي وصحراء النيجر لتكوّن دولة الطوارق.

ولتحقيق هذا الهدف لجا كثير منهم إلى ليبيا وعقدوا اتفاقية سرية محتواها أن شباب الطوارقيساندون القذافي في طموحاته الزعاميةوبسط سيطرته على الدول المجاورةوعلى العالم العربيمقابلدعمه المادي والمعنوي لهم في استقلال الصحراء، و كانت ليبيا قد استغلت هؤلاء الشباب في عمليات عسكريةفي تشاد ولبنان وفي الحرب الإيرانية العراقية، بعد أن دربهم تدريبا جيدا، وهؤلاء الشبابكانوا يشكلون الأغلبية في ثورة الطوارق لسنة 1990حتى سنة 1997م.

ثالثا: الرجوع المكثف للاجئين الطوارق :

بعد سنة 1987 بدأت عدة عوامل تجتمع لتسرع خطى رجوع اللاجئين الطوارق: منها انتهاء الحرب بين ليبيا وتشاد، حيث تم استخدام الطوارق في هذه الحرب من قبل ليبيا. ومنها أن المبالغ التي كانت ليبيا تقدمها لهم بدأت تنتقص يوما بعد يوم. ومنها وفاة سَيْنِ كونتشي رئيس النيجر سابقا، وكان يشكل موضع الخوف للطوارق، بل إن علاقته بليبيا لم تكن على ما يرام. وكذلك الإتاحة بموسى تراوري رئيس مالي سابقا الذي كان يشكل هو الآخر خطرا على الطوارق.

وفي ظل هذه العوامل رجع الكثير منهم مع أسلحتهم وأمتعتهم،وعندما قامت الجزائر في شهر يناير1990م بطرد آلاف البدو اللاجئين عمدوا إلى التجنيد، ليكونوا نواة جيش طارقي مستعد لكل المغامرات. بل إنهم بدأوا ينظمون أنفسهم من الداخل ومن الخارج، وكّونوا حركة باسم (حركات وجبهات موحدة لأزواد)Mouvements et fronts Unifiés de l’Azawad(MFUA)وكان أول هجوم لهم في تن تبراجين في النيجر ثم قاموا في مالي بعمليات عصابية اختطافية وبتخويف المدنيين وقتلهم، أدت إلى اندلاع الحرب بين الجيش المالي والطوارق لمدة ست سنوات متتالية، قبل الحصول على اتفاقية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

تقارير كاذبة من شأنها أن تزيد الطين بِلَّة :

الطوارق يُبادون في مالي، مالي تقتل طوارقها، إعدامات بالجملة بدون محاكمة، مئات القتلى، مأساة، مذابح، انتهاكات لحقوق الإنسان، هلع وهروب، تلك كانت ملخصا لعناوين المقالات والتحقيقات وتقارير المنظمات الدولية التي تناولت الصراع الدائر في شمال مالي بين المقاتلين الطوارق والجيش المالي، رغم الاختلاف بين المراسلين في تحديد الأسباب التي أدت إلى النزاع وتاريخه، إلا أنهم كانوا على اتفاق في إدانة هجمات الجيش المالي على المدنيين الطوارق الذين يرونهم عُزَّلا، والذين كان من المفترض أن يقوم الجيش ” الوطني” بحمايتهم.

وإذا كانت التقارير قد وصفت جرائم زعمت أنّ الجيش ارتكبها ضد المدنيين بشكل يدين الدولة ويحملها كامل المسؤولية فيما وقع، فإنها على النقيض من ذلك لم تذكر أية خروقات ولا جرائم قام بها الطرف الثاني في الصراع، وهم المقاتلون الطوارق. والحقيقة أنّه بينما كان الجيش المالي يستهدف معسكرات الطوارق، كانوا هم يجدون في المدنيين والقرى السنغية والفلانيةهدفا سهلا؛ لإشباع رغبتهم في الانتقام؛ ولممارسة الضغط على الجيش النظامي.

المبررات : هناك مُبرِّرات كثيرة تعلَّل بها هؤلاء المتمردّون فيتمرُّدهم، منها:

- يزعمون أن المساعدات الدولية المخصصة لهم كانت تختلس من طرف الحكومة فتفجر السخط فحوله الإيشومار إلى حرب عصابات لم تتوقف منذ ذلك الحين.

-أنهم مهملون اقتصاديا وسياسيا

-أن الدولة لا تهتم بتنمية منطقتهم.

ولا يحتاج تفنيد هذه المبررات إلى جهد كبير، فالكل يعلم أنَّ ما تنفقه الدولة على الطوارق لا يجد مثله أي مالي آخر في الشمال. فعلى مستوى السياسة كان بعض الطوارق يتجولون في المناصب الوزارية في حكومات مالي بينما لا نجد في بعض الحكومات أي وزير لا من السنغي ولا من الفلانيين وهم الأكثرية في الشمال، فرئيس المجموعات المحلية من الطوارق، وأذكر أن السديد أَغْ اِنْبَرْكَوَانْ نائب رئيس البرلمان الحالي كان -ولا يزال- هو الذي يمثل مديرية غاو في البرلمان منذ عهد موسى تراوري حتى يومنا هذا مع أن سكان مدينته هو لا يتجاوزون 500 نسمة.

على مستوى الاقتصاد مدير البنك الريفي من الطوارق ويرأس في الآن نفسه مشروع تنمية الشمال الممول من دولة مالي والدول الغربية، و لا ننسى أن مالي كانت تقيم لهم مدارس متنقلة في حلهم وترحالهم كي يتعلم أولادهم، وهو أول خطوة للتنمية. هذه النماذج المذكورة أردتُ بها الاستشهاد فقط؛ إذ لو أردتُ التحدث عن كل ما تقدمه الدولة للطوارق لما استطعتُ.

الأسباب الحقيقية لثورة1990 م:

يأتي في صدارتها عدم الرضا بأن يرأسهم رجل أسود؛ لأن في نظرهم خلق الله السود عبيدا وخُدّاما للآخرين. ثم إن هذه المنطقةقد تركها الجيش والحكومة المالية للطوارق يعملون بها ما يريدون، فحولوها إلى محور تجارة المخدرات والسجاير، والأسلحة، واختطاف السياح الغربيين، وكل هذا بقصد جمع الأموال والتسلح لليوم المنتظر الذي نعيش فيه اليوم. وهذه العمليات تقتضي حرية التصرف وعدم المراقبة. ولذلك لمَّا أرادت الحكومة إرجاع الجيش إلى الشمال ببناء معسكرات في أهم مدن الصحراء، رأى الطوارق ذلك تهديدا لحريتهم التجارية فلابد من إيقاف الحكومة عن مشروعها.

ثورة يناير 2012م:

لقد عادت ثورة الطوارق بقوة لم يسبق لها مثيل، ولستُ هنا لأتحدث عن تفاصيلها فكل منا عاش هذه الأحداث، فقط أريد أن أتناول أهدافها والخطوات الممهدة لها فيما يلي:

لا تختلف الأهداف الحقيقية لهذه الثورة عن ذي قبلها، إلا أنها ولأول مرة تصرحبها علنا وتجعلها شرطا للمفاوضة وهي عدم قبول رئاسة الرجل الأسود، والحل هو الانفصال عن مالي، وهذا الانفصال في مخططهم سيكون على مرحلتين، المرحلة الأولى: الحصول على الاستقلال الذاتي داخل جمهورية مالي لبعض الفترة، والوسيلة هي تخويف جمهورية مالي عن طريق الأسلحة ووسائل الإعلام حتى تقتنع مالي بأن لا خيار لها، فتقبل المشروع.

وبعد سنوات تأتي المرحلة الثانية وهي الاستقلال النهائي والوسيلة هنا الضغط على مالي عن طريق المحافل الدولية وإلا فبالأسلحة. بَيْد أن الظروف التي مرت بها الدولة سهلت تحقيق أهدافهم في مرحلة واحدة، وهذه الظروف كما سهلت أمامهم الحصول على الأقاليم التي يرونها لهم، أيضا جعلتهم في ورطة وتخبط. فقد وجدوا أنفسهم أمام أراض واسعة من غير استعداد مسبق للمترتبات، من حيث مجالات التنمية: التعليم والصحة والاقتصاد والتنظيم السياسي … وهذا ما يشكل جزء فشلهم من الآن.

وأما الخطوات الممهدة لها فتتلخص في الآتي:

أولا : الاتفاقيات المختلفة من عهد موسى تراوري إلى آخر اتفاقية، كل هذه الاتفاقيات كانت تخدم الحالة التي نحن فيها الآن: أذكر منها مثلا سحب الجيش الوطني من منطقة كيدال، واستبدال المتعسكرين الطوارق بهم.

ويمكن أن يضاف إلى هذا البند تخصيص أموال هائلة لتعويض الطوارق وإقامة مشاريع تنموية في المناطق الصحراوية. وقد تم شراء الأسلحة بهذه الأموال.

ثانيا: محاولات إيجاد حل محلي لها:

كانت المحاولات التي قامت بها الحكومات المتعاقبة قد شكلت عقبات أخرى فنجد ألفا عمر كوناري يبعد أغلبية المواطنين في الشمال وهم السنغاي ثم الفلانيون عن ساحة المفاوضات تقليلا من شأنهم بل إن إبراهيم أبو بكر كيتا قد أعلن في غاو بأنهم لا يقبلون جماعة غَندكوي في الجيش؛ لأنهم غانيون وليسوا ماليين. وبالمقابل كل من قدم الطوارق اسمَه يتم ضمه إما إلى الجيش وإما إلى الجمارك أو إلى الشرطة وغيرها من المناصب، وإن كان من النيجر أو من موريتانيا.

كما إن سياسة ألفا كوناري لحل المشكلةكانت تعتمد على تحويل عرب الصحراء إلى قوة مضادة للطوارق وسرعان ما تحالف الطرفان. كما إن سياسة أمدو تماني توري بعد أن فشلت مع إمازغان ( سورغو) لجأإلى أراذل الطوارق لحل المشكلة وهم بسطاء الطوارق ( دَاغَا) مما أغضب أسياد الصحراء ومحاربيها، وفضل الموت على سيادة قبائل داغا عليهم.

ثالثا: ضعف جيش مالي وإفشاء الرشوة بينهم

فمنذ أكثر من عشرين سنة لم يعد لنا جيش يمكن الاعتماد عليه، فأغلب الجيش سماسرة وتجار فلا يلحق بالجيش إلا من يدفع أكثر، فهنا لا يسأل عن الكفاءة واللياقة البدنية. أكثر من هذا أنه أثناء مسابقة الالتحاق بالجيش يُحضِر كبار الجيش في غاو أقاربَهم فيأخذون مقاعد غاو في الجيش وهذا هو الوجه الآخر للرشوة.

رابعا: مؤامرة كبار المسؤولين في غاو مع الطوارق وتجار المخدرات، وإهانة المواطنين من السنغي والفلانيين، ومن المؤامرات العمل من أجل ألا يكون مَنْ أصله من غاو وَاليًا عليه، ولا أعرف في تاريخ غاو من شغل منصب الوالي وهو من سكان غاو على الأقل منذ عهد موسى تراوري إلى يومنا هذا. بينما لا يكون واليا على كدال إلا من اقترحه سكان كدال وبشروطهم.

خامسا: موقف الرئيس أمدو تماني توري من فرنسا والجيران الذي لا يحسد عليه

في السنوات الأخيرة من فترة أمادو تماني توري اشتدت العداوة بينه وبين جيرانه الجزائر موريتانيا من جهة، وبينه وبين فرنسا من جهة أخرى. فقد كانت الجزائر تتهمه بضَعف الشخصية أمام من أسمتهم بالقاعدة، وبالعجز عن محاربتها، وخاصة لما قبل توري تحت تهديدات فرنسا بإطلاق سراح بعض المسجونين من القاعدة مقابل الإفراج عن الفرنسي المختطف. بينما تتهمه فرنسا وموريتانيا بعدم التعاون المشترك من أجل القضاء على القاعدة في الصحراء. والنتيجة أنهم شكلوا ثلاثية عدائية ضده، يترصدونه ويتآمرون ضده عن طريق الطوارق، وإفساد سمعته من الخارج.

سادسا: نهاية القذافي وتهريب أسلحته إلى مالي وقلة حيلة الرئيس أمدو تماني توري في التعامل معها

تورط الجزائر وليبيا وموريتانيا:

لقد عقدت الجزا ئر اتفاقيات مع الطوارق مفادها: أن يتكفل الطوارق بمحاربة الجماعة السلفية الجزائرية في صحراء مالي مقابل تمديدهم بالأسلحة والمئونة، والدفاع عنهم في المحافل الدولية والإقليمية، وحذف أسمائهم من الإرهابيين، والترويج لهم عن طريق وسائل الإعلام. والذي يتابع الصحف والإذاعات يعرف أن الصحف الجزائرية تعرف كل حركات الطوارق في الشمال. وفي هذا يقول أحد محللي الجزائر، محمد مقدم الحياة: أفادت مصادر متطابقة أن مختار بلمختار القيادي البارز في «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، كبرى الجماعات الإسلامية المسلحة الجزائرية، قُتل مع اثنين من مساعديه خلال تبادل لإطلاق النار مع جماعات معارضة مسلحة في شمال مالي.

ورأت أوساط أمنية جزائرية أن مقتل بلمختار المطلوب دولياً يكتسب أهمية خاصة، لا سيما أنه جاء بعد أقل من أسبوع على إعلان انضمام «الجماعة السلفية» إلى «القاعدة». واعتَبر دبلوماسيون جزائريون مقتل «الأعور» على أيدي مسلحي المعارضة المالية، «هدية» إلى السلطات الجزائرية على الجهود التي بذلتها لوقف الحرب الأهلية التي اندلعت في مالي قبل شهور. ويؤشر استهداف المعارضة المالية أحد قيادات «الجماعة السلفية» إلى رغبة الطوارق في نفي الاتهامات الجزائرية لهم بالارتباط بجماعات إرهابية.

ويعتبر بلمختار (34 عاماً) أحد أبرز قيادات «الجماعة السلفية»، وهو كان منذ تأسيس التنظيم المسلح نهاية العام 1998 «حلقة الربط» الأساسية مع تنظيم «القاعدة»، كما كان المصدر الأساسي للأسلحة والذخيرة التي كانت تحصل عليها الجماعة من شبكات تجارة السلاح التي تنشط في منطقة الساحل الصحراوي.

أما ليبيا فإنها مدينة للطوارق فقد استخدمتهم في حروبها القذرة كما مر بنا فلا بد من مساعدتهم ماديا ومعنويا للحصول على ما يريدون، وهذا ما تظهره ليبيا، ولكن القذافي له أهداف أخرى يسعى من خلال الطوارق إلى تحقيقها، تتلخص في قيام دولة الساحل والصحراء الكبرى بزعامته على غرار الولايات الأمريكية المتحدة، ولذلك كان يمطر عليهم الأموال والأسلحة تمهيدا لتحقيق هذه الأهداف.

وأما موريتانيا فمشكلتها هي أن كثيرا من طوارق الصحراء من أصول موريتانية؛ ولذلك أصبحت موريتانيا ملجأ لهم ومنطقة انسحاب استراتيجي في حالة هجوم الجيش المالي، ويضاف إلى ذلك أن موريتانيا هي التي تشجع فكرة عدمقبول رئاسة الرجل الأسود من قبل البيض، وإن كان السود أضعاف البيض متخذة وضع موريتانيا الحالي دليلا ونموذجا. ولكن موريتانيا تتجاهل تماما الحقائق التاريخية والسياسية لمنطقة شمال مالي……

مشكلة فرنسا: لقد ذكرنا بأن فرنسا كانت ترغب في ضم المناطق الصحراوية الغنية مع الجزائر إلى ممتلكاتها، الأمر الذي رفضه مودبو كيتا. وهذا يشكل فينظر فرنسا هزيمة مخجلة لا يسامح عليها، فأرادتتبديل ذلك بتحويل صحراء مالي إلى منطقة استراتيجية بعد الاستقلال، وهذا الطلب الأخير تمَّ رفضه قطعا من كل الحكومات المتعاقبة.

ولذلك قامت فرنسا بضم اسم مالي إلى القائمة السوداء، والعمل من أجل منع تقدم مالي وازدهارها مستخدمة كل الوسائل بما في ذلك الدفع بالطوارق إلى التمرد والثورات، ودعمهم بالخطط الجهنمية والاستراتيجيات الشيطانية.

الحل الدائم لهذه المشكلة: لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وتقول الحكمة: من لم يأخذ من ملته مات في علته.

الحل هو –أولا- إكثار شباب السنغاي والفلانيين في الجيش الجمهوري، فهم أعرف بطبائع الطوارق من غيرهم، وأجدر بإسكاتهم.

ثانيا تشجيع قيام حركات شبابية دفاعية من أجل الدفاع عن القرى النائية عن الحواضر حالة هجوم الطارق عليها. وأعتقد أن الكل يتذكر دور غَنْدَكُوْي في إخماد نار ثورة الطوارق السابقة.

د.عبد القادر إدريس ميغا

أستاذ في جامعة الآداب والعلوم الإنسانية

بماكو 6/7/1433هـ 27/5/2012م

**
**

التمرُّدُ الحالي بشِقَّيْه****السياسي والجهادي

د.هارون المهدي ميغا

**
**

أشكر للإخوة في مكتب البلديّة الخامسة الذين أحسنوا بي الظنَّ فأسندوا إليَّ هذا المحور الشائك، اللهم أنت أَعْلمُ بي من نفسي، وأنا أَعْلَمُ بنفسي منهم؛ فاجعلني- اللهمَّ- خَيرا مِمَّا يَظنُّون، واغْفِرْ لي ما لا يعلمون، ولا تُؤاخِذْني بما يقولون، واحلُلْ عُقدةً من لساني يَفْقُهوا قولي، لا حول لي ولا قوَّة إلاّ بك.

الجانب السياسي للتمرُّد الحالي:

لهذا الجانب أنوع كثيرة؛ لاختلاف الأطراف التي يتعلق بها، فهناك ما يتعلق بحكومات مالي، وبالمتمردين أنفسهم، وبالأغلبية في شمال مالي، وببعض الدول الخارجية.

أَّوَّلا: الطرف الحكومي:

إنّ سياسةَ حكومات مالي وبخاصة حكومة ATTهي التي أَسْهَمتْ في تمرُّد عام 2012م، فقد كانت تقوم على مبدأين:

أ‌- مبدأ لا حرب ولا سلم.

ب‌- مبدأ الاستجابة لمطالبات الطوارق والمجموعة العربية بمناصب عليا في الحكومة؛ فنتج عن ذلك:

-تعيينُ وزير منهما في كلّ حكومة؛ برغم أَنَّ تعيينَ الوزراء في مالي لا يقوم على أساس الانتماء القبلي.

-فتحُ الأبواب لهم على مصارعها في كلّ المجالات السياسية، والإداريّة، والأمنيّة، من غير الاستفادة من تجارب سابقة خانوا فيها الوطن والشعب.

-التشجيع الضمني والصريح لهم على ثقافة حمل****السلاح للحصول على ما يريدون من مناصب ومكاسب وأموال؛ بسبب التنازلات التي تقدّمها لهم حكومات مالي كلَّ ما حملوا السلاح، بل قامت هذه الحكومات من أيّام ألفا عمر كوناري بتزويد مجموعات من الطوارق والعرب بالسلاح بحجّة أنّهم مُوالُون للحكومة ويشاركونها في مُحاربة المفسدين من المجموعتين عن طريق فِرَق خاصة بكلِّ مجموعة بعيدا عن قيادة الجيش الماليّ. أليس هذا صورة من صور دولة داخل دولة، وغطاء سياسيا حكوميا لمسلِّحيهم؟؟

ثانيا: ما يتعلق بالطوارق والعرب أنفسهم:

-استغلال أصحاب المناصب العليا منهم لمناصبهم في مختلف إدارات الحكومة والمؤسسات الأهلية الداخلية والخارجية، استغلال مناصبهم لمساعدة إخوانهم المتمردين ماديا ومعنويا، سياسيا وأمنيا، اجتماعيا واقتصاديا وإعلاميا. ومَن يبحث عن دليل فلْيبحثْ عن هؤلاء منذ البدايات الأولى للتمرُّد سيجدهم إمَّا مُلتحِق بالمتمردّين، أو مُتظاهِر باللجوء إلى الدول الأخرى؛ خوفا على نفسه، أو باقٍ لِذَرِّ الرماد في العيون وهو في الحقيقة واجهة جاسوسية ودفاعية لهم، يظهرون في وسائل الإعلام الماليّة وغيرها ويدعون بالعودة إلى الاتفاقيات الأولى للخروج من الأزمة وإخوتهم الأشقاء يُفسدون في مُدُن الشمال وقُراهم وبينهم اتصال دائم.

-استغلال كلّ فُرصة مُتاحة وبخاصة ضعف حكومات مالي سياسيا، واجتماعيا، وعسكريا، وإعلاميا.

-إجادة اللعب على وَتَر الأقليّة البيضاء وسط الأكثرية السوداء؛ لاستمالة المنظمات والدول الغربية التي تسمِّي نفسها بمدافعات عن حقوق الأقليّات، وهي في الحقيقة مُستغلاَّت للأقليات، ووسائل للحكومات الغربية للضغط على الحكومات الضعيفة في العالم، أو الرافضة لبعض توجهات الغرب، ليس في مالي – فحسب- بل في العالم كلّه. انظر إلى الأقباط في مصر، والأقليّة الشيعيّة في دول الخليج، والأقليّة البربريّة في الجزائر والمغرب…إلخ.

ثالثا: ما يتعلَّق بالأغلبية في شمال مالي:

إنّ هذه الأغلبية مسالمة بل نائمة، وقد خانتها حكومات مالي منذ اتفاقيات عام 95-1996م حيث قبِلتْ بالامتيازات الهائلة التي أُعْطِيَتْ للطوارق والعرب في الشمال وفي إدارات الحكومة، في حينمَحَتْ حركة المقاومة الشعبية غاندَكُويْ التي وضعت السلاح بعد الاتفاقية المذكورة وانخرط عدد قليل جدّا من أفرادها فيبعض دوائر الحكومة، وشُرِّد آخرون بمبالغ زهيدة دُفِعَتْ إليهم. بل شدَّدتْ حكومات ألفا و ATT في جمع السلاح الموجود بيد بعض أفراد هذه الأغلبيّة في الشمال في حين غضَّتْ الطرف عن السلاح الموجود بيد الطوارق والمجموعة العربية، بل زوَّدتْ كثيرا بالسلاح والمال تحت غطاء الموالون للحكومة.

رابعا: الطرف السياسي الخارجي:

يتمثَّل في بعض الدول الغربية، والدول المجاورة كالجزائر وموريتانيا، والمنظمات الغربية الحقوقية والسياحية وغيرها.

أمّا فيما يتعلق بالدول الغربية فأوَّلها وأخطرها فرنسا التي أعطتْ التمرُّد الحالي غطاء سياسيا وإعلاميا بارزين. وقد قطعت جهيزة قول كلِّ خطيب بإعلان الوزير الفرنسي للتعاون الدولي في شهر فبراير في وسائل الإعلام الفرنسية RFI ، FRANCE 24 ، عن لقاءات سريَّة في باريس بين ممثلين من حركة المتمردين الطوارق ومُمثلين من الحكومة الفرنسية، وممَّا دار حوله المباحثات أن يُثبت المتمردُّون الطوارق قدرتهم على مساعدة فرنسا في محاربة القاعدة في صحراء مالي!!! بالله عليكم كيف يُثبَت ذلك على أرض الواقع بدون حمل السلاح والتمرُّد؟!!! ومَنْ منكم يتوقَّع البدء بدون دعم لوجستيّ سياسي وإعلامي وعسكريّحتى إنّ هناك مَن يقول بأنّ أسلحةً فرنسيّة وصلت إلى المتمردِّين عن طريق موريتانيا!!!

ومن مظاهر الدعم الفرنسي– منذ بداية الأحداث- الظهورُ البارز للناطقين باسم التمرُّد وبخاصة موسى السديد في وسائل الإعلام الفرنسية RFI ، FRANCE 24 وغيرهما، وإجراء لقاءات تلفزيونية معه بشكل يومي. يؤيِّد ذلك اختفاؤه شبه الكامل منذ سقط سَرْكَزايْ (سركوزي). ثمَّ أليستْ فرنسا هي التي تقدَّمتْ بمشروع إلى مجلس الأمن واقترحَت الحلَّ السياسي وبدأتْ في تسويقه دوليا وإفريقيا وعلى مستوى CEDAO؟ فهل تظنّ أنَّها استشارتْ مالي والماليين؟ كلاَّ

وهناك غطاء سياسي وإعلامي وملجأ آمن لهؤلاء المتمردين من قِبَل بعض الدول المجاوِرة، وبخاصَّة الجزائر وموريتانيا. فالسياسة الثابتة للدولتين هي أحقيَّة هؤلاء المتمردِّين في مطالباتهم بالسيطرة على الشمال-على الأقلّ عن طريق حكم ذاتي- ولذلك تُصِرُّ الدولتان على أن يقتصر تعاونُهما مع مالي في محاربة المتمردين على محاربة القاعدة، دون محاربة المتمردين الطوارق والعرب. وقد كان هذا سبب خلاف شديد بين وزير خارجية مالي السابق سوميلو بوبَّي ميغا وبين وزيري خارجية الجزائر وموريتانيا في اجتماعهم بنواكشوط في شهر فبراير الماضي. كما سحبتْ الجزائر ممثليها العسكريين من شمال مالي، ووقفت دعمها العسكري لمالي في الشهر نفسه بمجرَّد هجوم الجيش المالي على المتمردين الطوارق بعد أحداث أغلوق!!! ثمَّ كيف يُتصوَّر أن يبقى القنصل العامّ الجزائري والعاملون معه في قنصليَّة الجزائر في مدينة غاو في حراسة المتمردّين الطوارق وقد غادرها موظفو الحكومة، ورجال الجيش والأمن، حتى تمَّ اختطافهم من قِبَل حركة التوحيد والجهاد؟!!!

ومن المعلوم أنّ الجزائر اتَّخذَتْ حركة التمرُّد ورقة ضغط سياسيَّة على حكومات مالي لتأييد مواقفها في القضايا الدوليّة كقضيَّة بوليساريو، وفي عدم السماح بقواعد عسكريَّة لفرنسا أو أمريكا في تيساليت؛ خوفا على نفسها.

أمَّا المنظمَّات الغربية السياحيّة والثقافيّة فقد ركَّزت جهودها في الدعم الماديّ والإعلامي والسياسي في دولها.

كلُّ هذا جزء يسير من الجانب السياسي للتمرُّد الحالي.

**
**

الجانب الجهادي للتمرُّد الحالي وهدفه تطبيق الشريعة:

تجدونا في هذا العنوان شيئين الوسيلة: الجهاد، والغاية: تطبيق الشريعة.

لن أتحدَّث عن الجهاد في هذا التمرُّد؛ لأنّي بكلّ صراحة لا أجد فيه أيّ جزء يتعلَّق بالجهاد في الدين الإسلامي، لا في حركة التمرُّد التي تُسمَّى MNLA ؛ فقد أعلن المتحدِّث باسمها موسى السديد بصراحة في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة أنّها حركة علمانيّة وستقيم دولة علمانيّة!!!! ولا في حركة الجهاد MUJAOوأنصار الدين. ولقد تمَّ الاتفاق بينهم يوم أمس 26/5/2011م على استقلال الشمال تحت اسم: دولة الأزواد الإسلاميّة، وتطبيق الشريعة فيها. ثمَّ الطلاق البائن بسبب انكشاف حقيقة أنّهما وجهان لعملة واحدة، وأنّهم إنّما كانوا – ولا يزالون- يذرُّون الرماد في العيون.

هذا التمرُّد بطوائفه إنّما هو مُحارَبةٌ لله ورسوله وسعيٌ في أرض الإسلام بالفساد.

من الأدلّة: أنّ القتلى والمشرَّدين من ديارهم وأموالهم، والنساء المغتصبات مسلمون( [1])، والأعراض المنتهكَة، والأموال المنهوبة، كلّها لمسلمين، وانظر إلى الزواج بمسلمات تحت تحديد السلاح، وترهيب المسلمين، فأيُّ جهاد هذا؟!! ، أَوَليس (( المسلم مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده ))؟

ومن الأدلَّة أنّ الجهاد إنَّما يدعو إليه إمام المسلمين إمامةً صغرى أمير بلد إسلامي مُعيَّن وبشروط، أو إمامة كبرى خليفة لكلّ المسلمين، ولا شيء ينطبق عليهم.

ومن الأدلَّة: أنّه ثبت بما لا يَدَع مجالا للشكِّ ومن أشخاص ثقات وعلماء لا يزالون في الميدان أنَّ كثيرا من أفراد الداعين إلى تطبيق الشريعةفي الحركة الجهاديّة وأنصار الدين بمدينة غاو ممّن تحاوروا معهم أكَّدوا لهم بأنّهم إنّما غُرِّر بهم؛ إذ كانوا يقولون لهم أنتم ستقاتِلون كفَّارا، لكنّ الواقع الذي وجدوه أثبت لهم عكس ذلك منذ فجر يوم هجومهم على مدينة غاو حين سمعوا آذان الفجر ينطلق من جميع جوانب المدينة وقُراها!!! وكلُّكم تعرفون أنَّ هذا مانع أساسي من غزو قوم أو بلد باسم الجهاد. الوسيلة-إذن- فاسدة وباطلة.

فلْننظر في الغاية والهدف الذي أعلن عنه حركة الجهاد وأنصار الدين، وهو تطبيق الشريعة الإسلاميّة؛ لأنّ في إثبات فساد الهدف وبطلانه دليلا آخر على فساد الوسيلة؛ فعندنا نحن –المسلمين- الغاية لا تبرِّر الوسيلة.

تطبيق الشريعة غاية نبيلة يسعى فيها أو يرغب فيها كلُّ مسلم حقيقي، لكنَّه في هذا العصر أو في كثير من المجتمعات الإسلاميّة يحتاج إلى توفير الأرضية عن طريق:

1- التدرُّج، والتدرُّج مبدأ إسلامي أصيل، ومقصد إنساني عظيم، بُنِي عليه كلُّ أحكام الإسلام، وبخاصَّة في مجال التطبيق والتنفيذ, ويُقصَد به أخذ الأمر شيئا فشيئا، ومرحلة مرحلة، لا دفعة واحدة. وله ثلاثة أنواع هي: الأوَّل: التدرُّج في التشريع، ومعناه: (( أن يكون مقصود المشرِّع تشريع صورة معيَّنة لكن يُتوسَّل إليها بتشريع مؤقَّت قاصر عن الصورة المقصودة ثمَّ يتدرَّج المشرِّع حتى يصل إلى صورة المنع التي كانت مقصودة له أوَّل الأمر، ومن أشهر أمثلته التدرُّج في تشريع الخمر على أربع مراحل)), والنوع الثاني: التدرُّج في إبلاغ الصورة التشريعيّة، ومعناه: (( بيان بعض الدين والحق والسكوت عن بيان بعضه إلى أن يحين وقته. ومن أشهر أمثلته حديث معاذ بن جبل المشهور لمَّا بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قوم أهل كتاب)). والنوع الثالث: التدرُّج في التنفيذ، (( وفيه تكون الصورة التشريعيّة معلومة بيِّنة ولكن يُسكَت عن إنفاذها وتحقيق مقتضياتها)). هذا النوع هو الذي ينطبق على الحال التي نتحدَّث عنها. ومن أشهر أمثلته قصة الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي جاء إلى الحكم بعد مظالم وقعت على الناس من الذين قبله وأراد العدل وردّ المظالم فلم يقُمْ بتغييرها دفعة واحدة وإنّما تدرَّج في الإصلاح والتطبيق والتنفيذ. وفي القصة أنّ ابنه عبد الملك دخل عليه فقال له: (( يا أبتِ، ما منعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فو الله ما كنتُ أُبالي لو غَلَتْ بي وبك القُدورُ في ذلك، قال: يا بُنَيَّ إنّي إنّما أُرِّوض من الناس رياضة الصعب، وإنّي أُريد أن أُحيِي الأمر من العدل فأُؤخِّر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه))( [2]). فانظر إلى هذا الخليفة لديه القوَّة التي تمكِّنه من تحقيق العدل دفعة واحدة، لكنّه – بحكمته وبعد نظره الشرعي- رأى:

1- التدرُّج2- ترسيخ الوازع والنازع الدينين. 3- عدم حمل الناس عليه بالقوَّة؛ لأنّهم سيرجعون عن الحق والعدل بأدنى فرصة تُتاح لهم.

إنّ موقفه هذا مبني على الموازنة بين المكاسب والخسائر، وعلى قاعدة: الأخذ بأخفِّ الضررين، وقاعدة: درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح. ولا يمكن لعاقل واعٍ أن يتهم عمر بن عبد العزيز في موقفه هذا بأنّه يدخل في قوله تعالى: {{ ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}}[المائدة44]، ولا قوله: {{ ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}}[المائدة45]، ولا في قوله: {{ ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}} [المائدة 47]. وإذا كان هذا موقفه وهو خليفة المسلمين في القرن الثالث الهجري أحد القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيريّة فما بالك بقرننا؟!!! أوَ لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ خوفا من ردَّة قريش، وترك قتل المنافقين وهو في المدينة حتى لا يُقال إنَّ محمَّدا يقتل أصحابه؟، فهل هذه تعطيل للشريعة؟ لا، بل هي جزء لا يتجزَّأ من تطبيق الشريعة. أفَلَسْنا مطالبين بالتدرُّج وبهذه المواقف في السعي لتجديد التمكين للدين!!بلى. فكيف إذا كانت المفاسد التي ترتَّبتْ على هذا التمرّد أكثر وأشدّ من المكاسب؟.

2 - الإعداد الجيّد لتطبيق الشريعة: بترسيخ المناعة الذاتية في الفرد وفي معظم المجتمع، أو ما اصطلح عليه العلماء بالوازع الديني والنازع الديني. إنّ ترسيخ الوازع والنازع الدينيين أهمّ مقاصد الإسلام ووسائله في تطبيق الشريعة على المسلم الفرد والمجتمع الإسلامي، وصَمام الأمان للالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه؛ لأنّهما يزرعان في الفرد والمجتمع شُرْطِيَّيْن يلازمانه في حركاته وسكناته، ويراقبانه سرًّا وجهرا. الشرطي الأوّل يسهر على ترغيبه في التزام الأوامر، هذا هو الوازع الديني، والشرطي الثاني يسهر على إبعاده عن ارتكاب المعاصي، هذا هو النازع الديني، والأصل وجودهما عند أكثر المسلمين مهما تفاوتوا فيهما، ومع ذلك فالبيئة الإسلامية ليست معصومة من انحراف المنحرفين؛ فقد بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ, وليبلُغَنَّ هذا الدين ما بلغ الليلُ والنهار.

فكان الواجب على هؤلاء الذين يزعمون تطبيق الشريعة:

أوَّلا: ترسيخ الوازع والنازع الدينيين.

ثانيا: الأخذ على يد الفئة القليلة التي ضعُف لديها الوازع أو النازع الديني؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ ثمّ بالعقوبات الشرعية المحدَّدة أو التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد. وكلّ ذلك ممّا لا يمكن أن يتمّ بين عشيّة وضحاها؛ ولا أن تقوم به مثل هذه الجماعة؛ فلتغيير المنكر شروط، ومراحل، ووسائل، وأساليب. وما تقوم به هذه الجماعات بعيدة عن المنهج الإسلامي الصحيح في تغيير المنكر، ومن باب أولى عن التطبيق الصحيح للشريعة التي تشمل جميع جوانب الحياة.

ثالثا: حتى لا يخضع تطبيق الشريعة للهوى والفوضى والرغبة****في الانتقام كان عليهم توفير الأدوات والوسائل التي تتولَّى تطبيق الشريعة. إنَّ تطبيق الشريعة في حاجة شديدة إلى دولة ذات سلطات تنفيذية، وتشريعيّة، ورقابيّة، وأمنيّة. وفي حاجة إلى تكوين القضاة. والشروط المتعلِّقة بتولِّي القضاء ليس سهلا في الإسلام، وكذلك الشروط المتعلِّقة بشخص القاضي، أم بعلمه، أم بمدى التزامه هو بالدين، أم بقوَّته في الحق. ولا أجد شيئا منها في هذه الجماعة التي تريد تطبيق الشريعة في شمال مالي. والدليل أنّهم –منذ سيطروا على الشمال- إنّما يلجأون إلى بعض علماء المنطقة ودعاتها في المسائل الدينيّة، ولديهم في هذين الأسبوعين قضايا مُكدَّسة؛ بسبب غياب بعض هؤلاء الذين يستفتونهم عن مدينة غاو، أليس في هذا دليل قويٌّ على جهلهم بما يدعون إلى تطبيقه؟ وكيف يطبق الشريعة أو يجاهد في تطبيقه مَنْ لا يعرف منها إلاّ اسمها، والانطلاق من حماسٍ طاغٍ على العقل والدين؟ ثمَّ كيف تستعين في تطبيق الشريعة بأناس إنّما غَزَوْتَهم؛ لأنَّهم لا يعملون بالشريعة؟!!!

بناء على ما تقدَّم أقول:

1- في ظلّ وجود عدّة دول إسلامية: ما الدولة التي ستُجاهِد؟ وتُجاهِد مَن؟ ولِمَ؟ وكيف؟ ومتى؟ ثمَّ أين هذه الجماعات من تطبيق الشريعة على المجتمعات التي جاءت منها؛ بناء على {{ وأنذِرْ عشيرتَك الأقربين}}.

2- إنَّ التعدَّي على شعب دولة مسلمة من دولة أخرى أو من جماعة باسم تطبيق الإسلام من الحرابة. وعقوبة الحرابة تُنَزَّل على كلّ طائفة وُجِد فيها أمران: محاربة الله ورسوله، والسعي في الأرض فسادا. وقد اكتمل الشرطان في هذه الجماعات بمختلف أسمائها: فهي جماعات حِرابة، مهما تسمَّتْ بأسماء، وأعلنت عن أهداف نبيلة.

3- ينبغي توعية الشباب الإسلامي ومنعه من الالتحاق بهذه الحركات باسم الجهاد أم بغيره؛ لأنّ فيه تهلكةً لهم، والله تعالى يقول: {{ ولا تُلقُوا بأيديكم إلى التَّهْلُكَة وأَحْسِنوا إنَّ الله يُحِبُّ المُحْسنين}} [البقرة195]؟ وفيه إرهاب للمسلمين، وتشريد لهم، وتجويعهم، وسفك لدمائهم، وانتهاك لحرماتهم ولأعراضهم، فأيّ جهاد هذا، و(( المسلم مِنْ سلِم المسلمون من لسانه ويده))؟؟؟.

ما الآثار لهذه الأحداث ؟

لقد نتُج عن هذه الأحداث آثار إيجابيّة وسلبية، أشار إليها أحد الباحثين :( [3])

فمن الإيجابية:

-إ يقاظ النائمين المسالمين والراكنين إلى عدم حمل السلاح من أبناء هذه المناطق ومالي {{ إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم}} وإنّ من التغيير ما هو مُزَلزل لكنَّه يولد خيرا كثيرا ؛ فإنّ مع العسر يُسرا.

-الشهادة الداخليّة والإقليمية والدولية بامتياز على عدم وفاء الطوارق والمجموعة العربية في مالي بالأمانة ولا بالإخلاص للمجتمع؛ فقد أعطاهم الرئيس توري كلَّ شيء، وأطلق لهم العنان في مختلف مجالات الدولة، ومع ذلك خذلوه وخذلوا شعب مالي في جميع الجوانب.

-أنّ سياسات مالي القادمة مع الجزائر وموريتانيا يجب أن تقوم على أساس المعاملة بالمثْل، وهو مبدأ إنساني، وديني، وسياسي، واجتماعي قويم، لا سيما في العلاقات بين الدول. فعلى مالي أن تأوي المتمردين من الجزائر وموريتانيا أيّا كان انتماؤهم وأهدافهم، وأن تساعدهم ماديًّا ومعنويا، وعسكريا وسياسيا، مقابل إيواء البلدين لطوارق مالي وعربه ومساعدتهم ماديًّا ومعنويا بل وعسكريا وسياسيا. وقد سمعتم أنّ المجموعة العربية عقدت لقاء في موريتانيا، وأعلنت رسميا عن جناح عربي مُسلَّح، وآخر سياسي!!!

ومن الآثار السلبية:

- أمنيا، لن تجد بلدا في منطقة الساحل عربيها وإفريقيها يسلم أمنيا من الأحداث، فلو تمَّ لهؤلاء ما أرادوا فسيقول كلُّ بلد لقد أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض.

- اجتماعيا، زيادة الكراهية والتنافر بين أفراد المجتمعات في الساحل بين الأفارقة والطوارق والعرب، لا سيما في ظلّ ثبوت تواطؤ بعض الدول العربية مع الطوارق كالجزائر، وموريتانيا، وقطر. ناهيك عن الأحداث الفظيعة التي ارتكبوها ضدَّ أبناء القبائل الأخرى في ممتلكاتهم وأعراضهم ونفوسهم.

- دينيا، إضعاف موقف الهيئات الإسلامية في مالي من أهل السنَّة والجماعة، التي كان لها حضور قويّ في السنتين الأخيرتين، ونجحت في تكوين جماعة ضغط قويّ على الحكومة كي لا تتخذ قرارات أو تصدر قوانين تمسُّ شؤون دينهم الإسلامي. فما أن ظهرت حركة أنصار الدين في مدن الشمال حتى بدأت الاتهامات تُكال لأهل السنَّة والجماعة، في وسائل الإعلام المحليّة والدولية (فرنس 24، وبي بي سي، وغيرهما) تصِف هذه الحركة بأنَّها حركة (وهابيَّة) تستعمل العنف والسلاح جاءت من السعوديّة ومصر. وبأنَّها تختلف عن حركات أنصار الدين الصوفية الإفريقية المعتدلة المسالمة كالتي في مالي!!!!.

ما الحلّ ؟ ما منْ مُشكلة إلاّ ولها حَلٌّ إذا خلُصتْ النيّات، وأريد تحقيق الحق وإبطال الباطل. وقد ذكر أحد الباحثين حَلََّين اثنين لا ثالث لهما:( [4])

أحدهما: سلميٌّ وهو القبض على المجرمين بدون استثناء وتقديمهم للمحاكمة داخل مالي أو خارجها، وإعادة المسروقات والمنهوبات إلى أهلها، وتعويض المتضرِّرين، وبقاء الأقاليم ماليّة. ولا بدّ من المحاكمات العسكرية لكلّ الطوارق والعرب الذين انسحبوا من الجيش والأجهزة الأمنية والإدارية وغيرها والتحقوا بالمتمردين. لكنّ هذا الحلّ مُستَبعَد؛ للتجارب السابقة مع حركات تمرُّد الطوارق والعرب التي لم يستطيعوا أن يُحقِّقوا فيها ما حقَّقوه في التمردِّ الحالي.

الآخر: استعمال أقسى قوَّة عسكريّة وماديّة لقتال هؤلاء المتمردين بجميع طوائفهم، سواء عن طريق جيش مالي والأجهزة الأمنية أم عن طريق شباب شمال مالي وغيرهم من المتطوِّعين بقيادة حركة غاندَاكُوي وغيرها؛ فالحديد لا يُفَلُّ إلاّ بالحديد؛ و لأنّ ما أُخِذ بالقوَّة لا يُردّ ردّا سليما إلاّ بالقوّة، ثمّ لطبيعة الطوارق والعرب الذين لا يخضعون إلاّ لسلطة قويّة، مهما أُوتُوا.

ولا فائدة حقيقيّة من أيّ مفاوضات لا تنطلق من هذين الحلَّين أو لا يشترك فيها بقيَّة قبائل المنطقة. أمّا الحلول السياسية التي يبحث فيها السياسيون فلا جدوى منها؛ لأنَّه ليس للسياسي صديق دائم الصداقة، ولا عدوٌّ دائم العداوة، وإنّما يميل حيث تميل الرياح!!!

سبحانك اللهم لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمد.

د.هارون المهدي ميغا

بماكو 6/7/1433هـ 27/5/2012م


1 - كالذي حدث في مدينة غاو بعد السيطرة عليها،وفي مدينة كابرا مساء الجمعة 6/4، 2012م

2- مجلة البيان سنة 27، العدد 297، جمادى الأولى 1433هـ أبريل 2012م ص9، مقال: التدرج في تطبيق الشريعة، المفهوم والرؤية، أبو فهر السلفي أحمد سالم، ص8-11

3- انظر: من قصَّة المتمردّين الطوارق في مالي، سعد المهدي، 09/5/2012م، 18/6/1433هـ، ص9 (غير منشور)

4 - انظر: المرجع السابق والصفحة نفسها.