حكم تكوين الأحزاب والجماعات داخل الدولة الإسلامية

الأمر الذي لا اختلاف فيه أن الأصل في الإسلام وجوب الوحدة والائتلاف، وحرمة الفرقة والاختلاف، وأن المطلوب من كل مسلم أن يكون على الإسلام الصحيح، الذي نزل على رسول الله ج ، وعلى هذا مضى المسلمون الأوائل، وكانوا أمة واحدة إلى أن ظهرت الخوارج، وكفروا كبار الصحابة، ثم توالت الفرق، فظهرت الروافض، ثم القدرية، ثم المعتزلة وغيرها، وكان شعار هذه الفرق جميعًا هو ترك اتباع الصحابة y في فهم الكتاب والسنة، وهكذا تفرق أهل الإسلام، وكفر بعضهم بعضًا، وأصبحوا أعداء بعد أن كانوا إخوانًا -كما يقول ابن رجب- وخرج كثير منهم عن الإسلام الصحيح الذي كان عليه رسول الله ج وأصحابه، الذي ظل السواد الأعظم من المسلمين في ذلك الوقت المبكر متمسكين به، وبالغ أئمتهم في التحذير من هذه الفرق ما لَم يبالغوا في إنكار الفواحش، إذ رأوا أن ضرر هذه الفرق من الخطورة بمكان، ثم تعاقب على الأمة أطوار مختلفة، تخلت فيها عن كثير من شرائع دينها الصحيح، فتعرضت لهزات عنيفة، وزلازل شديدة من الداخل والخارج، إلى أن ضعفت قوتُها، وذهبت دولتها، وسلبت ثرواتُها وخيراتُها، هنالك قام الغيورون من أبنائها يريدون أن يعيدوا لها مجدها وعزها، لكن الغيرة وحدها لا تكفي، ولابد أن يتحلى أصحابُها بالتمكن من العلم الشرعي، والفهم الصحيح للإسلام، فاشتد خلاف هؤلاء، وتشعبت بِهم الطرق، وتباينت خططهم من أجل تحقيق هذه الغاية الكبرى، وانتهجوا مناهج كثيرة سياسية وغير سياسية، جهادية وغير جهادية، وتحزبوا، واتخذوا كل حزب منهم اسمًا أو لقبًا يعرفون به، وأميرًا يبايعونه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأعطوه من الحقوق ما لا يكون إلا للحكام، وأخذوا يقطعون من جسد الأمة ما يكثرون به سوادهم، فزادوا في تصدع الأمة وتفرقها وإنْهاك قوتِها.

وكثير من “هؤلاء من يود القفز فوق نواميس الحياة، وقوانين الطبيعة، والسنن الكونية، ويحسبون أن الحكم بالإسلام يمكن أن يتم بانقلاب خاطف، أو سحر ساحر، وأن دور الإعداد التربوي والبناء الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي يمكن أن يأتي في مرحلة لاحقة، وفي وقت لا يملك هؤلاء مشروعًا للأداء الدعوي الناجح، فكيف برعاية شئون الأمة المختلفة”([1]).

ورأي أهل الحديث والسنة الملتزمون بمنهج النبوة وفهم السلف للكتاب والسنة، وهم الامتداد الطبيعي للإسلام الأول الذي كان عليه الرسول ج وأصحابه، أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بِما صلح به أولها، وبحثوا عن الطريقة الشرعية لإقامة الملة الحنيفية وإعادة مجد الأمة الإسلامية، فمن المحال أن يعلم النَّبِي ج أمته آداب الخلاء ووطء النساء والطعام والشراب، ويدع تعليمها الطريق الموصلة إلى التمكين لدين الله، وتحكيم شرعه، فقاموا بتصفية ما علق بحياة المسلمين من الشرك على اختلاف أشكاله وصوره، وتحذيرهم من البدع المنكرة والأفكار الدخيلة، واجتهدوا في تربيتهم على دينهم الحق، على الإسلام المصفى مما شابه عبر القرون والأجيال من بدع وخرافات، وسلكوا بِهم الطريق الشرعية في التعامل مع الواقع اللاشرعي، لاسيما مع الحكومات التي لا تحكم بِما أنزل الله، وأبوا أن يزيدوا في تفريق الأمة بإنشاء حزب أو جماعة، أو يكون لهم أمير -إلا أن يكون ولي الأمر- أو متبوع غير رسول الله ج ، وبِهذا يتبين -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله ج وهو أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تميزًا بين صحيحها وسقيمها.. فلا ينصبون مقالة ويجعلونَها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لَم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول ج ، بل يجعلون ما بعث به الرسول ج من الكتاب والحكمة هو الأصل يعتقدونه ويتعمدونه، وما تنازع فيه الناس.. يردونه إلى الله ورسوله.

فهؤلاء يمثلون الإسلام الأول، ولهذا فليسوا بحاجة إلى التميز بلقب، أو شعار، لَم يرد به نص، وهم كذلك لا يعرفون التنظيمات السرية، ولا يعقدون البيعة إلا للإمام المسلم المستقر، وليست دعوتُهم في شكلها ومضمونِها إلا دعوة الإسلام بكل ما تعنيه هذه الكلمة بخلاف الجماعات الإسلامية القائمة، فمنها ما فيه مخالفات كثيرة لمنهج السلف الصالح، ومنها ما يدعو إلى شعبة من شعب الإسلام دون أخرى، فلا ينبغي للمسلم الحق أن يخرج من سعة الإسلام إلى القوالب الضيقة، ويتقيد بمنهج غير منهج النبوة القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فإن مضار الجماعات والأحزاب على الإسلام والمسلمين من الكثرة بمكان، فمنها:

1- أن الولاء والبراء يعقد عليها، فأصبح الولاء لهذه التنظيمات وتلك الجماعات لا لله -تبارك وتعالى-، وأصبحت الدعوة كذلك إلى هذه الجماعات وليس إلى الإسلام، وكم حصلت من حروب كلامية ودموية بسبب التعصب لهذه الجماعات أو لمؤسسيها أو منظريها، ولا يجوز شرعًا أن يعقد الولاء والبراء على شيء غير الإسلام، فلا ينبغي أن يعقد على اسم، أو رجل، أو حزب “وليس لأحد -كما يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليه غير النَّبِي ج ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة، ويعادون”.

“وهذه حال كثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية اليوم: أنَّهم ينصبون أشخاصًا قادة لهم، فيوالون أولياءهم، ويعادون أعداءهم، ويطيعونَهم في كل ما يفتون لهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يسألوهم عن أدلتهم فيما يقولون أو يفتون”([2]).

أما “أهل الحق والسنة فلا يكون متبوعهم إلا رسول الله ج الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنْزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ج “([3]).

2- أن الانتماء إلى جماعة يميز المنتسب إليها عن غيره ويجعل له حقوقًا ليست لغيره من المسلمين، ويعقد له عقدًا ليس لغيره، والله قد عقد بين المسلمين جميعًا بعقد الأخوة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات:10]. والحزبية تنشئ أخوة دون أخوة مبنية على مبادئ الجماعة وشعارها، ولذلك نَهى الشارع الشريف أن يتحالف بعض المسلمين دون البعض؛ لأن التحالف يميز الحلفاء عن سائر المسلمين فقال ج: $لا حلف في الإسلام ([4]). وفي رواية: $لا تحدثوا حلفًا في الإسلام .

3- كثرة هذه الجماعات بكثرة مناهجها الفكرية فرقت الأمة ومزقت شملها وأورثت المنازعة والشحناء والبغضاء، كما قال ج: $إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ([5]). وسببت كذلك اضطرابًا للحياة الفكرية وأثارت التهارج والشغب، وذلك كله من أكبر عوامل إضعاف الأمة وذهاب قوتِها كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ﴾ [الأنفال:46].

“إن العمل الإسلامي وأهدافه الكبيرة ومقاصده العظمى، يستلزم تضافر قوى المسلمين جميعًا في مسيرة واحدة، وضمن خطة موحدة، في حين أن تشرزم هذه القوى، سيحبط العمل، ويعرقل المسيرة، ويجعل الإنتاج محدودًا على كل صعيد.. إن تفكك الصف الإسلامي من شأنه أن يجعل بأس المسلمين بينهم، ويفتح في صفوفهم وبلادهم ثغرات، يتسلل منها أعداء الإسلام، وهذا ما يجري اليوم…”([6]).

يقول بعض التابعين: “خرج علينا عثمان بن عفان فخطبنا، فقطع قوم عليه كلامه، فتراموا بالبطحاء حتى لَم نبصر أديْم السماء، فسمعنا أم المؤمنين من أحد حجر أزواج النَّبِي ج تقول: “ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب، وتلت قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾.”

فالأحزاب والجماعات فرقة نَهى الله تعالى عنها، وبرأ نبيه مُحمَّدًا ج وبين سوء عاقبتها في الدين والدنيا، فلا يعين عليها إلا جاهل([7]).

4- “إن السماح بإنشاء جماعات إسلامية على أرض الدولة المسلمة سيؤدي إلى التلاعب بمسألة شرعية خطيرة، وهي مسألة البيعة، إذ ما من جماعة إسلامية إلا ويطالب أتباعها بإعطاء البيعة لزعيمها، أو مؤسسها، أو الذي يتولى أمرها، وعندئذ تتعدد البيعات بتعدد الجماعات، وفي هذا هدم لقاعدة شرعية أساسية، وهي أن البيعة التي هي في عنق المسلم، إنَّما هي بيعة على السمع والطاعة في المعروف لولي أمره.. فلا يجوز توجيه البيعة إلى الجماعات وزعمائها”([8]).

5- وفي الحزبية تحجيم للإسلام فلا ينظر إليه إلا من خلالها في تجمع حول قيادة معينة، ومبادئ فكرية خاصة، فعلى أيدي جماعات العنف والتطرف التي تسفك الدماء، وتروع الآمنين، قدمت صورة بشعة مقززة عن الإسلام والمسلمين، لا تمت إلى الحقيقة بصلة ولا نسب!.

6- والحزبية تقوم على التسليم بآراء الجماعة والدعوة إليها وسد منافذ النقد لها، وهذا يناقد ما دعا إليه الشارع من ملازمة الحق ونقد الباطل والتحذير منه ونبذ التقليد الأعمى “ومعظم الجماعات يعتقد المسئولون فيها أنَّهم هم وحدهم الذين يحق لهم أن يناقشوا فيما بينهم، فإذا وصلوا إلى قرار فهو ملزم لجميع الأعضاء في الجماعة، وأن الآخرين كلهم -أي غير أولئك المسئولين- واجبهم السمع والطاعة بغير اعتراض، وتلجأ تلك الجماعات إلى تَهديد المخالفين بالفصل من الجماعة إن لَم يسمعوا ويطيعوا”([9]).

7- وبسبب الحزبية المقيتة تكونت الجماعات الإسلامية التي تعتمد طريق المواجهات المسلحة والاغتيلات المدمرة، فأوقعت الأمة في فتن مدلهمة وشرور كبيرة، وكانت ذريعة للمتربصين بالدعوة الإسلامية لوأدها والإجهاز عليها واستعداء الكثيرين على أصحابِها، ومسوغًا لهم لوصفهم بالإرهاب والتطرف.

8- والغالب أن هذه الجماعات تنقسم على نفسها؛ لتخرج للأمة جماعات أخرى، تزيد في تمزيق شملها وإنْهاك قوتِها، كما هو حال كثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية اليوم.

9- وبسبب الحزبية “والسرية في العمل” نشأ الفكر التكفيري فترى كثيرين “يقضون معظم حياتِهم في دهاليز السرية ينظمون الشباب، ويحزبونَهم، وينظرون لهم أفكارهم وتوجهاتِهم.. وهذه السرية في حقيقتها كبت للطاقات، وتمويت للعمل الجاد الشامل…”([10]).

“وهل السرية إلا دليل على فساد وضلال يتخفى صاحبه من أعين أهل العلم خشية الانفضاح، يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه-: “وإذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنَّهم على تأسيس ضلالة”([11]).

وصدق -وايْم الله- فإنه ما انفتح باب سوء على المسلمين كباب “السرية في العمل” الَّتِي أنبتت كل مذهب باطل، يهدم الإسلام، ويزعم أنه ناصر له، وتاريخ نشوء الفرق الضالة خير شاهد على تصديق ذلك”([12]).

ولذلك قال ج: عليك بالعلانية، وإياك والسر ([13]).

فهذه بعض مضار الحزبية فهل من عودة لهذه الجماعات المتناحرة إلى نَهج النبوة حيث لا فرقة ولا تباغض، ولا تنازع، وحيث لا جماعة ولا حزب.


([1]) د. فتحي يكن: الشرق الأوسط، العدد (6637) تاريخ 29/1/1997م. ([2]) منهج الأنبياء (1/16). ([3]) حكم الانتماء (123). ([4]) متفق عليه: (7340) ومسلم (2529). ([5]) رواه مسلم (2812). ([6]) د. فتحي يكن، جريدة الشرق الأوسط العدد (6637) تاريخ 29/1/1997م. ([7]) الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم -رحمه الله- جريدة المسلمون العدد (625) تاريخ 15 رمضان 1417’. ([8]) بصائر للدعاة (27). ([9]) واقعنا المعاصر (498). ([10]) رؤية واقعية في المناهج الدعوية (42) وراجع لزامًا حكم الانتماء. ([11]) رواه أحمد في الزهد، واللالكائي في السنة. ([12]) الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم “المسلمون” العدد (625) تاريخ 15رمضان 1417’. ([13]) حديث حسن: رواه ابن أبي عاصم في السنة (11044) بتحقيق الأستاذ الدكتور باسم الجوابرة -حفظه الله ووفقه-.