استفسار الدكتور خالد العنبري اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول بيانها بشأن كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء أصحاب الفضيلة أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حفظ الله الجميع، ووفقهم لما يحب ويرضى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعـد:
فأرجو أن تسمحوا لي أن أبين لكم -حفظكم الله تعالى- ما ورد في البيان الصادر بتاريخ 24/10/1420هـ ورقم (21154) بشأن كتاب “الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير في ضوء الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة” لمؤلفه الدكتور خالد العنبري كاتب هذه السطور.
ولا يخفى عليكم أن الإيجاب والتحريم ليس إلا لله ورسوله كما يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- فأرجو منكم -أثابكم الله- توضيح الحجة الشرعية التي من أجلها قطعت اللجنة الموقرة بتحريم طبع الكتاب المذكور بعد خمس سنين من طبعه ونشره؟! إذ لَمْ تتبين لي:
1- أمن أجل ما فيه من الكذب على الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- على حد تعبير البيان فما زلنا نسمع منكم ومن غيركم من أهل العلم أن ابن بطوطة افترى الكذب على شيخ الإسلام بن تيمية في رحلته المشهورة (1/110): “أنه كان على منبر الجامع، فقال: إن الله يَنْزِل إلى السماء الدنيا كنُزُولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر!!” فما سمعنا أحدًا من أهل العلم قاطبة يحرم طباعة رحلته، وقد كذب على شيخ الإسلام في مسألة هي أخطر من مسألتي، كيف وأنا بريء الساحة من الكذب -والحمد لله-.
لقد كان المكفرون للحكام بالقوانين الوضعية بإطلاق ودون تفصيل يستشهدون بكلام الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في رسالته “تحكيم القوانين” فاستشكلت الشيخ ابن جبرين، فأجابني بأن له كلامًا آخر غير الذي في تحكيم القوانين، فنقلت ذلك عنه في كتابي، فسأله بعض المغرضين بعد فترة من الزمان، فقال بالحرف: “لا أذكر أنه تراجع عن ذلك، ولا أن له كلامًا يبرر فيه الحكم بغير ما أنزل الله… فمن نقل عني أنه رجع -رحمه الله- عن كلامه المذكور، فقد أخطأ في النقل”. واستكتبوه ذلك، وطاروا بورقته في الآفاق يشنعون بِهَا عليَّ، والحق أن كلام الشيخ ابن جبرين لا يتوجه إليَّ وليس فيه تكذيب لي؛ إذ لَمْ أقل: إن الشيخ تراجع. بل قلت: له كلام آخر. وما قلت أبدًا: إن الشيخ يبرر الحكم بغير ما أنزل الله، ومعاذ الله أن يكون في كتابي شيء يبرر الحكم بغير ما أنزل الله، أو يسوغ تشريع ما لَمْ يأذن به الله، ثم هلاَّ قال هؤلاء المشنعون: إن الشيخ ابن جبرين قد نسي، وفي كتب مصطلح الحديث باب مفرد: “في من حدث ونسي”!!.
ودعكم من ذا كله، فقد ألفيت كلام الشيخ الآخر في فتاواه: (1/80) وهو مرفق بخطابي هذا؛ إذ يقول في كلام أوضح من أن يوضح، مؤرخ في 9/1/1385هـ -أي: بعد طباعة رسالة تحكيم القوانين بخمس سنين-:
“وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله: من تحكيم شريعته، والتقيد بِهَا، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بِهَا من سلطان، والتي من حكم بِهَا أو حاكم إليها معتقدًا صحة ذلك وجوازه فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة”.
فهذا التفصيل المبين من الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله- هو الذي بنيت عليه كتابي، وواجهت به المكفرين للحكام بإطلاق، فكيف يحرم طبعه وبيعه ونشره؟! ويشنع علي، ويشهر بي على رءوس الأشهاد والمجلات والإنترنت.
2- أمن أجل ما في كتابي من دعوى الإجماع على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي على حد تعبير البيان.
أولاً: أنشدكم بالله العلي الكبير أين تجدون هذا الإجماع في كتابي؟! ائتوني بحرف منه!! إن الذي في كتابي (ص81) بخط كبير أسود، وعنوان طويل مفرد: “مطلب عزيز: إثبات إجماع السلف والخلف من أهل السنة وغيرهم على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله من غير جحود واستحلال”.
ولَمْ أتعرض في هذا المطلب للتشريع العام مطلقًا، ولَمْ أدع إجماعًا عليه في كتابي كله، فبين ما تدعون عليّ من إجماع وبين ما أدعيه من إجماع فرق كبير وبون شاسع!!.
ثانيًا: ما زال العلماء يدعون إجماعات شتى هي من الكثرة بمكان، كما ترون في مثل كتب ابن عبد البر وابن رشد والنووي وغيرهم فما أفتى أحد قديمًا ولا حديثًا بتحريم تداول كتبهم وحظر بيعها ونشرها.
ثالثًا: إن المخالفين لي الذين يكفرون الحكام بالقوانين الوضعية بإطلاق ودون تفصيل ادعوا الإجماع على ما يزعمون من تكفير الحكام دون مستند علمي صحيح، كما كشفت عن ذلك في كتابي، فما أفتى أحد بتحريم طباعة كتبهم.
رابعًا: لقد أثبت الإجماع على ما ادعيت -لا ما ادعي علي- من طرق ثلاث، أذكر منها أن السلف وأهل السنة مجمعون على أنَّهُم لا يكفرون مسلمًا بكبيرة -غير مكفرة- ما لَمْ يستحلها أو يجحد تحريمها، وقد سقت في كتابي قضاء أعداد غفيرة من أئمة العلماء وشيوخ الإسلام النبلاء: أن الحكم بغير الشريعة الغراء من غير جحود أو استحلال كبيرة من الكبائر غير المكفرة من أمثال: ابن عباس، وطاوس، وابنه، وعطاء، وزين العابدين، وأحمد بن حنبل، وابن بطة، وابن العربي، والقرطبي، وابن تيمية، والسعدي، وابن باز، وغيرهم.
بل إني قد سبقت بالتصريح بنحو هذا، فقد نسب القرطبي صاحب كتاب المفهم (5/117-118) القول بظاهر قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(. إلى الخوارج صراحة، ثم قال في كلام أوضح من فلق الصبح: ومقصود هذا البحث أن هذه الآيات المراد بِهَا أهل الكفر والعناد، وأنَّهَا وإن كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأن ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يغفر، والكفر لا يغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفرًا!.
3- أمن أجل ما في كتابي -كما ذكر البيان- من تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم حرم البيان كتابي وشهر بي؟!.
فما أكثر الكتب التي فسرت فيها مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم، فما سمعنا أحدًا من أهل العلم يحرم هاتيك الكتب، بل أذهب إلى أبعد من ذلكم، فما أكثر كتب التفسير ودواوين شروح الحديث التي فسرت فيها كلمات الله تعالى وكلمات رسوله S على غير مراد الله تعالى وغير مقصود رسوله S؛ فما سمعنا اللجنة الموقرة تحرم تداولها.
وقد أثبت على من خالفني في هذه القضية أن فهمهم لظواهر الآيات التي احتجوا بِهَا فهم يضاهي فهم الخوارج لها، من مثل تعلقهم بظاهر قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(.
فقال الجصاص في أحكام القرآن (2/534): “وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود”.
وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42): “واعلم أن الخوارج يستدلون بِهَذه الآية، ويقولون: من لَمْ يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم”.
وقال مثل ذلك أبو يعلى الحنبلي، وابن عبد البر، وأبو حيان، والقرطبي، كما أثبت ذلك في كتابي الذي حُرمت طبعه وبيعه ونشره!!.
على أني قد تحريت أشد ما يكون التحري في تفسير كلام أهل العلم بما يوافق مقاصدهم، ولا أظن -إن شاء الله- أن في كتابي ما يخالف ذلك -والحمد لله- وقد قال الشيخ الدكتور صالح بن غانم السدلان في مقدمته لطبعة الكتاب الثانية: “ألفيت كتاب الأخ الشيخ خالد بن علي بن محمد العنبري… قد وافق عنوانه مخبره في التزام منهاج النبوة وفهم سلف الأمة في جميع مسائله وقضاياه”. إلى أن قال: وأطال النفس بعد ذلك -أثابه الله- في مسألة العصر: مسألة الحكم بغير ما أنزل الله. فوفق في عرضها وبيانِهَا غاية التوفيق، فأصَّل وقعَّد، وحشد أقوال أهل العلم في هذه المسألة في القديْم والحديث، وبين أنَّهَا تخرج من مشكاة واحدة، وأنَّهُم لا يكفرون من الحكام إلا من استحل الحكم بالقوانين الوضعية، أو جحد الحكم بالشريعة الإسلامية، أو زعم أنَّهَا لا تناسب الأعصار المتأخرة، أو أن الحكم بِهَا وبغيرها سيان، ونحو ذلك.
4- أمن أجل الإخلال بالأمانة العلمية -على حد تعبير البيان!- والتصرف في بعض النصوص المنقولة عن أهل العلم حذفًا أو تغييرًا على وجه يفهم منه غير المراد أصلاً جرمتم الكاتب وحرمتم الكتاب؟!.
أناشدكم الله -جل وعلا- أن تظهروا لي شيئًا من ذلك “والبينة على من ادّعى واليمين على من أنكر” فالبينة البينة بقيد أن يكون التصرف بالحذف يمكن أن يفهم منه غير المراد أصلاً -كما ذكر البيان- إذ من عادة أهل العلم حذف بعض النصوص اختصارًا بحيث لا يؤثر ذلك في المراد أو المقصود.
أما التصرف في بعض النصوص بالتغيير -فوالذي لا إله إلا هو- ليس في كتبي التي بلغت خمسة وعشرين كتابًا -كلها في نصر الحق والسنة وقمع الباطل والبدعة- ليس فيها شيء من ذلك ألبتة.
ولقد أثبت على المخالفين في هذه القضية الذين يكفرون الحكام بالقوانين الوضعية بإطلاق -بترهم لبعض نصوص العلماء، وحذفهم لبعض كلماتِهَا؛ لكي توافق ما يذهبون إليه من التكفير، كتلاعبهم بقول ابن عباس -على سبيل المثال-: “من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولَمْ يحكم به فهو ظالِم فاسق”. فقد بتر بعضهم قوله: “ومن أقر به.. إلخ”. ومثال ذلك أيضًا أن بعضهم حذف جملة “وإلا كانوا جهالاً” ووضع بدلاً منها بعض النقاط في قول شيخ الإسلام بن تيمية في منهاج السنة (5/130): “فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار “وإلا كانوا جهالاً” والحكم بما أنزل الله واجب … إلخ”. وهذا النص منقول بحروفه من رسالة “إن الله هو الحكم”.
وهذا النص المهم الفاصل في القضية نقله غير واحد من هؤلاء إلى قوله: “فهم كفار” وحذف ما بعده.
وقد أثبت ذلك في كتابي وبينته، ولَمْ أسمع بيانًا من اللجنة الموقرة يحرم طباعة هذه الكتب التي تتلاعب بنصوص أهل العلم في هذه القضية الخطرة قضية تكفير الحكام.
مهما يكن من أمر، فأرجو الإفادة عما يلي:
1- هل خرج كتابي في قضية الحكم بغير ما أنزل الله عن رأي اللجنة الدائمة في فتواها رقم: (5741) في الإجابة على السؤال الحادي عشر: ونصها كالآتي:
س: من لَمْ يحكم بِمَا أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفرًا أكبر وتقبل منه أعماله؟
جـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه…
وبعد: قال تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(. وقال تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(. وقال تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(. لكن إن استحل ذلك، واعتقده جائزًا فهو كفر أكبر وظلم أكبر، وفسق أكبر، يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم، يعتبر كافرًا كفرًا أصغر، وفاسقًا فسقًا أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبدالله بن باز
2- كما أرجو تفصيل المجمل في بيان اللجنة من التصرف في بعض النصوص، وتفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.
3- وإبراز موضع الإجماع في كتابي على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي.
4- وهل اللجنة الموقرة تكفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام؟!.
أرجو إفادتي عن هذا كله: )وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(.
والله يحفظكم ويرعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدكتور/ خالد بن علي بن محمد العنبري
الْمدرس سابقًا في جامعتي الإمام والْملك سعود