الإسلام يحرصُ أشد الحرص على إنشاء مجتمعات نظيفة

إن الإسلام يحرصُ أشد الحرص على إنشاء مجتمعات نظيفة، قال تعالى:

“لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا” [النساء: 148].

فكل ما كان سيئًا من القول، فالجهر به لا يحبُّه الله عزَّ وجلَّ، ولا يرضاه. فما بالكم بتتبع عورات الناس وفضحهم، فإن ذلك المسلكَ الخطيرَ يجرئُ أصحابَ النفوس الضعيفة على مواقعة المعاصي ومقارفةِ الآثام، مما يؤدي إلى نشر الرذيلة بين العباد، وإشاعةِ الفاحشة في المجتمعات. وهو ما حذرنا الله تعالى منه، عندما قال سبحانه:

“إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” [النور: 19].

غابَ الستر الجميل عن حياة كثير من الناس

لقد غابَ الستر الجميل عن حياة كثير من الناس خاصة في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل، فأكثرُ المقاطعِ شيوعاً، ما صدره أصحابُه بفضيحة فلانةٍ أو فلان، في سباق محموم لنشر الفضائح بشتى الطرق. وكم رأينا من هاشتاقات تحتوي على كلمات تخدش الحياء، ومقاطع فيديو لا يحلُ مجردُ تحميلِها على الشبكة، فكيف بدعوةِ الناس للنظر إليها، وإعادةِ تغريدها؟

تتبع الزلات وكشف العورات

إن الاستطالةَ على أعراض الناس بالغيبة والنميمة، تتبع الزلات وكشف العورات، وتعقب الهفوات، وتلمس العثرات، ونشر المعايب، وإذاعةِ الأسرار، والتشهير عبر المواقع والمنتديات، ظاهرة تنبئ عن ضعف الورعِ والتقوى.

وإذا كان قولُك حين تُسأل عن فلان: “الله يستر علينا وعليه”، اعتبرها العلماء من الغيبة المحرمة، كما ذكرنا في الحلقة السابقة، فكيف بمن بات همه تتبعَ العورات، وسردَ الفضائح، وإذاعةَ القبائح، من أجل التشفي أو الانتقام أو الإثارةِ الإعلامية، أو تحقيقِ مكاسبَ مادية، أو حباً للظهور والشهرة.

ألا فليسمع هؤلاء قول البشير النذير ﷺ:

“يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورةَ أخيهِ المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته.” رواه أبو داود وصححه الألباني.

سترُ الأسرار

لقد تحدثنا قبل ذلك عن ستر العصاة، غير أن هنالك أنواعاً أخرى من الستر، كان لزاماً أن نتطرق لها.

فمن الستر المطلوب سترُ الأسرار، فإذا ائتمنك صاحبك على سر، فلا تفش سرَّه لأحد، حتى وإن هجرك وخاصمك، بل اجعل قلبك قبراً لأسراره، كما قال الحكيم الأول: “قلوبُ الأحرار قبورُ الأسرار”.

وقال آخر يصف صاحبَه الذي يكتم سره:

“ويكتم الأسرارَ حتى إنه.. ليصونَها عن أن تمرَ بباله.”

وأحلى من هذا البيت قولُ شاعرٍ آخر:

“يا ذا الذي أودعتني سره … لا ترْجُ أن تسمعه مني لم أُجره بعدَك في خاطري … كأنه ما مرّ في ذهني.”

أمانة الحديث

وفيما رواه أبو داود وحسنه الألباني، عن جابر رضي الله عنه عن النَّبي ﷺ، قال:

“إذا حدَّث أخًا له بحديث، ثم التفت فهي أمانة.”

فهذه الالتفاتة من المتحدث تعني أنَّه لا يريد أن يطَّلع على حديثه غيرَ الذي حدَّثه به، وأنه قد خصه بسرِّه. فكان الالتفاتُ مثل ما لو قال له: اُكتُم هذا الخبر عني، وهو عندك أمانة، فإن حدَّث به غيرَه فقد خالف أمرَ الله، حيث أدَّى الأمانةَ إلى غير أهلها.

تسجيل المكالمات الصوتية بدون إذن

ومما يدخل في ذلك تسجيلُ المكالماتِ الصوتية بدون إذن، فإنه هتكٌ لحمى الخصوصية، وتجاوزٌ للأخلاق والقيم الإنسانية، وربما يَنتشر على نطاق أوسع مما يُسبب التشهير والحرج لصاحب الصوت. فلا يجوزُ تسجيلُ المكالماتِ الهاتفية إلا بإذن من صاحب الصوت، أو من السلطات المختصة، ولا يجوزُ إفشاءُ سريتها، وإلا عُد ذلك جريمةٌ، يعاقبُ عليها قانونُ الأرض وقانونُ السماء.

إفشاء الرسائل الخاصة

كما لا يجوزُ إفشاءُ رسائل الإيميل ورسائل الشات والخاص في مواقع التواصل، إلا إذا تأكدتَ أن صاحبَ الرسائل يرضى بنشرها، لأنه قد أعدها للنشر في المواقع.

أسرار الزوجية

ومن أهم ما ينبغي أن يُستر من الأسرارِ أسرارُ الزوجية، لا سيما ما يجري بين الزوجين من أمور الاستمتاع، ووصفِ تفاصيل ذلك، وما يجري فيه من قول أو فعل ونحو ذلك. فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

“إنَّ مِن أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها.”

أي ينشرُ ما حقُّه أن يُكتم من أمور الاستمتاع، أو من عيوبِ البدن الباطنة، ويدخل فيمن هو من أشر الناس عند الله منزلة، مَن إذا فارق زوجته، نشر عيوبَ بدنها الخفية، فيعيب رائحتها ويُعرِّضُ بنظافتها الشخصية.

أسرار الوظيفة

ومن أهم ما ينبغي أن يُستر من الأسرار: أسرار الوظيفة، وحفظُ أسرار العمل، وهو دليل على الوفاء بالعهد، والقيام بالأمانة التي يجب حفظها، كما قال تعالى:

“وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” [المؤمنون: 8].

ولا شك أن إفشاءَ أسرارِ العمل خيانةٌ، وإخلالٌ بالأمانة، وقد يكون له أضرار كبيرة وآثار خطيرة. وفي الحديث:

“آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.”

ومن الناس من تكونُ طبيعةُ عمله أن يطلع على أسرار الناس وخصوصاتهم، كالأطباء والمستشارين الأسريين والمحكمين والقضاة والمفتين والمعبرين للرؤى والأحلام، ومغسلي الموتى، فهؤلاء يجب عليهم سترُ كلِّ ما يطلعون عليه، مما قد يسبب إظهاره ضررا حسيا أو معنويا.

الأعمال الصالحة يُستحب سترُها

ومن الأمور التي يُستحب سترُها، بعضُ الأعمال الصالحة، التي تكون بينك وبين الله، بحيث لا يطلع عليها أحد إلا الله، وهذه هي الخبيئةُ الصالحة، التي رغّب فيها الإسلام. قال تعالى:

“إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [البقرة: 271].

وفي صحيح مسلم قال رسول الله ﷺ:

“إن الله يحب العبد التقي النقي الخفيّ.”

وفي حديث أهل الغار، الذين سَدّت عليهم الصخرةُ مخرج الغار، وتقطعت بهم الأسباب، فلم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمال صالحة لهم. وقد رغب رسول الله ﷺ أمته في صدقة السر، كما في الطبراني بسند حسن، فقال ﷺ:

“صدقةُ السر تطفئ غضب الرب.”

وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ المتفق عليه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:

“سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.”

وقد حرص السلف الصالح على إخفاء أعمالهم عن أعين الناس، تقرُّباً إلى الله؛ و “كانوا يستحبّون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها” وفي ذلك قال الزبير رضي الله عنه:

“من استطاع منكم أن يكون له خِبْءٌ من عمل صالح فليفعل.”

دعاء

اللهم يا من أظهر الجميل، و ستر القبيح، ولم يهتك الستر، يا عظيم العفو، يا كريم الصفح، يا حسن التجاوز، تجاوز عنا واسترنا علينا بسترك الجميل.