قرر [الشهاب العابرُ] عبر كتابه البدر المنير في قواعد التعبير وفي باب
تعبير [رؤيا الأنبياء]
قرر أن تفسير من رأى أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام:
فتدلُّ رُؤْيَته على الْبلَاءِ، وفراقِ الْأَحِبَّة، وَكَثْرَة الْمَرَض، ثمَّ يُفرج عنه ويَزُول ذَلِك جَمِيعه، بإذن الله، كما تدل رُؤْيَة أَيُّوب النبي على أَنه يكون كَرِيمًا، وَرُبمَا يَقَع بَينه وَبَين زَوجته نكد ثمَّ يصطلحان، وَإِن كَانَ قد ترك عبَادَة أَو خيرا كَانَ يَفْعَله عَاد إِلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أواباً، وآب إِذا رَجَعَ وَتَابَّ وهذه التأويلات التي ذكرها الشهاب العابر مما استنبطه من قصة أيوب عليه السلام! كما قال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].
فقد كان أيوب كثيرَ المال والصحة والأولاد
يملك الأراضي المتسعة من أرض حوران بالشام، ابتلاه الله بالنعمة والرخاء ولم تفتنه زينة الحياة الدنيا ولم تخدعه ولم تشغله عن طاعة الله، ثم ابتلاه الله بعد ذلك بالضرّ الشديد في ماله وولده فقد ذهب ماله ومات أولاده جميعهم، فصبر على ذلك صبرًا جميلًا ولم ينقطع عن عبادة ربه وشكره، وفوق هذا البلاء الذي ابتلي به في أمواله وأولاده، ابتلاه الله تعالى بأنواع من الأمراض الخطيرةِ المؤلمة في بدنه وهو في كل هذا البلاء صابرٌ محتسب يرجو ثواب الله في الآخرة، ذاكرًا لمولاه في جميع أحواله!
وطال مرضه عليه الصلاة والسلام ولزمه ثماني عشرة سنة
ولم يبق عنده سوى زوجته، كانت تحفظ حقه، وكانت تعمل بالأجرة عند الناس، وتأتيه بالطعام، ولما لم تجد أحدًا يستخدمها باعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناسًا، فلما كان من الغد لم تجد أحدًا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتته به فأنكره، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها، فلما رأى رأسها محلوقًا قال في دعائه: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83] فجاء الفرج من الله: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] أي اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله عينًا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب من مائها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والمرض، وأبدله الله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة، وعافية كاملة، وجمالًا تامًا!
ولما استبطأته زوجته وطال انتظارها
أقبل نبي الله عليه الصلاة والسلام إليها سليمًا صحيحًا على أحسن ما كان فلما رأته لم تعرفه فقالت له: بارك الله فيك هل رأيت نبي الله أيوب هذا المبتلى؟ فو الله ما رأيت رجلًا أشبه به منك إذ كان صحيحًا، فقال لها عليه الصلاة والسلام: فإني أنا هو. وأغنى الله تبارك وتعالى عبده أيوب عليه السلام بالمال الكثير بعد أن كان قد فقد أمواله، حتى صُبَّ له المالُ صباً ، فقد كان لأيوبَ بَيدران بيدرٌ للقمح وبيدر للشعير فبعث الله تبارك وتعالى بقدرته سحابتين، فلما كانت إحداهما على بيدر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت السحابة الأخرى على بيدر الشعير الفضة حتى فاض وعمّ! كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: " بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه تبارك وتعالى: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك. وردَّ الله تبارك وتعالى لأيوب عليه السلام أولاده، وأخلف له أهله، فقد قيل: أحياهم الله تبارك وتعالى له بأعيانهم، وزاده مثلهم معهم فضلاً منه وكرمًا، وقيل: عوضه الله عنهم في الدنيا بدلهم، قال سبحانه: ﴿وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]
ولما باعت زوجةُ أيوب عليه السلام شعرها
لبعض بنات الملوك فصنعت له من ثمنه طعامًا فحلف أيوب عليه الصلاة والسلام إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، ولما أراد أيوب عليه الصلاة والسلام أن يبرّ بيمينه بعد شفائه أمره الله أن يأخذ ضغثًا وهو الحُزْمة من الحشيش أو الريحان أو ما أشبه ذلك فيه مائة قضيب فيضرب بها زوجته ضربة واحدة وبذلك لا يحنث في يمينه، يقولُ الله تبارك وتعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}سورة ص،
ولقد شرع الله تعالى له ذلك رحمة بها ولحسن خدمتها
إياه وإحسانها إليه وشفقتها عليه أثناء مرضه ومصائبه التي ابتُلي بها طوال الثماني عشرة سنة التي ابتلاه الله بها، ولأنها امرأة مؤمنة صالحة تقية صابرة تؤدي حق زوجها عليها وتحسن معاشرته في السراء والضراء، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه وخافه،
بقي أن ننبه
أنّ علماء العقيدة قرروا أن أنبياء الله ورسله هم صفوة خلق الله، سالمون من الكفر وكبائر الذنوب، وكذلك يستحيل عليهم الأمراض المنفرة التي تنفر الناس عنهم، ومن ثم يتبيّن لنا أن ما يُنسبُ إلى سيدنا أيوب من أنه ابتلي في جسمه بأمراض منفرة لا أساس ولا صحة له.